من أيام ما كنا في «السفير»

من أيام ما كنا في «السفير»

من أيام ما كنا في «السفير»

ذلك المكتب الذي أنهى فيه طلال سلمان ليلة «السفير» الأخيرة، أعرفه. ربما لم يتغيّر شيء فيه إلا تلك اللوحة التي احتلت من الحائط مساحة أوسع مما ينبغي. وأنا، معتمدا على معرفتي القديمة بالجريدة، رحت أختبر نفسي إن كنت أعرف مَن هو راسمُها، هكذا من النظرة السريعة التي يتيحها مرورها في الفيديو السريع. طلال سلمان ما زال هو نفسه أيضا، أقصد تلك البساطة التي أبدت خروجه من الجريدة، وهو الخروج الأخير، مثل مغادرة رجل لدكانه في آخر النهار، أو مثل موظف أرجع قلمه إلى سدادته معلنا بذلك انتهاء يوم العمل. لكننا، نحن مشاهدي الفيديو، كنا نعرف من قبل أن هذا الخروج العادي تمثيل رمزي لإقفال الجريدة، نهائيا هذه المرّة. لكن على المكتب، هناك عند ما بات خلفية المشهد، كان المصباح الصغير يطلق ومضات متردّدة بين الانطفاء والإضاءة، مذكّرا ربما بفترات التردّد بين القرار بإقفال «السفير» واستمرارها في العمل دون انقطاع . لكن الضوء هذا ما لبث أن استقرّ أخيرا على دوام الإضاءة، ما جعل أحد الجالسين يقول: ستعود من جديد، أنظر إلى الضوء.
فكّرت أنني يجب أن أكون معنيا بإقفال «السفير»، وقد عملت فيها ما يزيد عن عشر سنوات. لكن ذلك الضوء المتردّد لم ينقل لي توتّره واستبشار صاحبنا بأن الجريدة ستعود. ذاك أن وقتا طويلا قد انقضى على مغادرتي الجريدة، حتى أنني في المرات القليلة التي قصدتها سائلاعن عباس، كنت أسأل نفسي هل سأرى عند المدخل أحدا أعرفه. أما في الطوابق، الطابق الثاني مثلا حيث كنا نسأل جماعة المحليات عن آخر الأخبار، فلم يعد أحد هناك ممن كانوا في أيامنا.
ذلك الجيل الذي رافق انطلاقة الجريدة لم يعد موجودا في مكاتبها، بل إن أجيالا عدّة، وليس جيلا واحدا، تعاقبت على إصدارها من بعده. هذا يعفي ربما من الاضطرار للشعور بالرثاء، على إثر مناسبة الإقفال، طالما أني، إن فعلت سأبدو كمن يفتح صفحة قديمة نسيها الجميع، أو أنني لم أقم بذلك إلا لأذكّرهم بأنني كنت هناك. على أيّ حال كان قد سبق لي أن قمت بالرثاء ذاك، لكن السلبي، وبالمفرّق وعلى دفعات. من هذه مثلا حين خرج مصطفى الحسيني من الجريدة، وهو واحد ممن كانوا أساسييها، بغير إرادة منه، وكذلك محمد مشموشي، وكذلك أبو ابراهيم الذي التقيته بعد إعفائه من عمله في حراسة الجريدة، شاكيا من صروف الزمان. كما قمت ببعض من ذلك الرثاء حين لم أعد أقرأ لعباس بيضون ما يرغب في كتابته.
لكننا في المقابل ما نزال، أنا وأصدقاء من ذلك الجيل الأوّل، نكنّ ودّا (كما يقال بفصحى شائعة) ل«السفير». ذاك الزمن لم نتوقّف عن استذكاره كأنه الزاد الأساس مما حصّلناه من سنوات عملنا في الصحافة. ما زلنا نذكّر بعضنا بعضا بالنكات التي كانت تقال آنذاك، كأن لم تستحقّ نكتة أن تدوم وتبقى مما قيل في مكان آخر من الأمكنة التي عملنا فيها، وهناك في «السفير» اهتدينا إلى أصدقاء باتوا أصدقاء العمر. كانت صانعة الصداقة بين العاملين فيها، الساخرين من أن يكونوا «زملاء»، لجهة السخرية من العبارة التي تحتمل حيادية وقبولا تامًا بلغة العمل في وظائف. وكنا محتفلين بإحلال الكتابة في المقام الأول، والاحتفال بها مثلما حدث حين وقفنا متضامنين، بمبادرة هي مزيج مما يمكن أن يكون دافعا نقابيا ودافعا إبداعيا، هكذا في الوقت نفسه. كان ذلك، مثلا، حين وقفنا معا معترضين على عدم نشر مقال للصافي سعيد يسخر فيه من أم كلثوم وطه حسين وآخرين كثيرين، مظهرين بذلك أن المقال الساخر اللاهي يُحتجّ له مثلما يُحتجّ للمقال السياسي.
كان الزمن مختلفا. كثيرون كانوا هنا، في بيروت آنذاك، فلسطينيون ومصريون معارضون وعراقيون معارضون ومثقفون من دول أخرى. كانت «السفير» جريدة لهم، لرأيهم ولنقد رأيهم، بل أحسب أن الخروج عن المعتقدات المعممة كان يحدث في السفير أيضا، هي الراعية مبدئيا لذلك التعميم والدائبة على صنعه. كانت الطموحات كثيرة إلى حدّ عدم القدرة على ضبطها، وأخاذة حتى أن إدارة الجريدة، المحاذرة من الوقوع في ما لا يُقبل، كانت مندهشة بها.
ربما كان يرجع ذلك إلى أن القوى، أو الدول، المراقبة من وراء رقابة التحرير، أو من فوقها، كانت أقل تشددا من تلك التي أعقبتها. وقد أدركنا في أيامنا نتفا من ذلك يقوم أكثرها على كون الجريدة مدافعة عن حرية الرأي فيما هي ملتزمة، في صفحاتها السياسية، بأحد الرأيين المتساجلين، لكن هكذا كانت الجرائد الأخرى، وهكذا هي مستمرّة برفقة أجهزة الإعلام كلها. لكن، مع ذلك، كيف كان يمكن ضبط ذلك الفوران.
تجربة العمل، بل العيش، في جريدة «السفير» تحتاج كتابتها إلى دفاتر كثيرة. إنها متسعة ومتراوحة بين السخط والرضى، كما أنها ممتدة على مدار 43 سنة عبرت خلالها تجارب كثيرة. هي سنوات كثيرة، أعمارٌ، لنا منها تلك السنوات التي عددتُ أعلاه القليل من صفاتها. لكننا، في تجاربها المتتالية كنا منها متفاوتي القرب والبعد، وذلك تبعا لابتعادها عن صورتها البادئة، تلك التي كنا مشاركين في صنعها. لكن الابتعاد كان يزداد طرديا مع تغيّر التجارب، تجربة «السفير» وتجربة كل واحد منا. ربما يحسن بمن عملوا فيها أن يتوزّعوا الاحتفال بما كانته، لكل جيل منهم حقبة من تاريخها. هذا سيكون أفضل إذ سيمكِن به كتابة تاريخ «السفير» كلّه ولا يكتفى بما حفظته ذاكرة واحدة.
روائي لبناني

m2pack.biz