مونودراما ‘صح النوم’ … وأداء المشعوذ

مونودراما ‘صح النوم’ … وأداء المشعوذ

مونودراما ‘صح النوم’ … وأداء المشعوذ

القاهرة ‘القدس العربي’ من إسراء إمام: في عروض المونودراما، إختر ممثلا يفوق الإمتياز وإلا إلغ العرض برمته من الأساس.
فالمونودراما (وهي شكل من أشكال المسرح التجريبي، يتحدث فيه شخص واحد طوال العرض) إيقاعها بأكمله ينضبط بالأداء. وليس كل موهوب، يستطيع مجاراة هذه اليقظة التي لا مثيل لها لخشبة المسرح في مثل عروض كتلك. فمهما بلغ عظمة كتابة النص، يبقى المؤدي هو الروح الرئيسة التي تبعث الحياة في هذه الكلمات، وتمنحها عالمها المُبتَغى. الجموح، الإرتجال، الشعوذة، أشياء من هذا القبيل لابد وأن يتمتع بها الممثل في هذه الحالة. فهو يبيع المتفرج السحر دون أن يهيب خزعبلية الموقف. عيونه محدقة على اتساعها، لا تغض بصرا، ولا تنفلت منها نظرة في غير محلها، لا مجال هنا لثانية إخفاق، أو التحليق على مبعدة من مدار الحُلم.
ودعاء حمزة في عرض ‘صح النوم’ عن النص الإيطالي ‘نوبة صحيان’ ل داريو فو، اختزلت التعريف بحالة ممثل المونودراما، فأظهرت الكثير من حِدة الذهن، التنمر في الأداء البصري والحركي، تلون نبرة الصوت (إلى جانب موهبتها بالفطرة في إمتلاك وقع صوت رنان عذب)، واتزان حركي وجسدي رائع.
عن النص
الواضح من النسخة الممصرة عن العرض الإيطالي الأصلي، أنه في غاية الصعوبة، لا سيما الإختلاف فيما بين ظروف المجتمع الأوروبي وأجوائه، وهو ما ينتفي عن نص ‘منحة البطراوي’ الذي بذلت فيه مجهودا أصيلا، يتبدى من مصريته المتطرفة في واقعيتها، والتي يستشف منها على الجانب الآخر أن النص غارق في ذات الواقعية ولكن في ظروف مناقضة تماما عن التي تم التطرق لها في النص المصري الذي أجاد ملائمة بيئته. فهو بخصوص هذه النقطة، أوفى وكفى، على جل المستويات، سواء في معايشة تفاصيل دقيقة حقيقية، أو فيما يخص استخدام المفردات والتوصيفات.
إنها حالة الهذيان التي تتشح بالكثير من الغموض والتعتيم، وقد أفلح النص في أن يحتفظ بهذه الضبابية إلى النهاية، فلم يسع لتوضيح الأشياء جهرا، وإنما أراد أن يُبقي عليها ملتبسة تدعو للتساؤل المُلِح، حول حالة هذه السيدة التي لا تلبث أن تُثرثر بالحديث في هيستيرية لا تنفي عنها خفة الظل، ولا الكثير من الشجن والإضطراب النفسي. كل هذا يحدث بشكل تكثيفي مُختزَل وُمعبر.
في بعض الأحيان، خيم بعض الملل على هذه الثرثرة، وفي أحيان أخرى بلغت أوجها في الذكاء والرشاقة والقدرة على ربط مبادىء الحديث ومغاليقه. ولكن في العموم، وكما ذكرت سابقا، أداء دعاء كان يلتهم هذه السقطات التي قد يتعثر بها النص. فبحضورها هي، والكاريزما التي حملتها في إيماءاتها وتفوهاتها، ابتساماتها، ضحكاتها، دموعها، والطريقة التي تتمكن بها من الإمساك بتلابيب عُنق المتفرج وبأعلى درجات إنتباهه، بكل هذا غُفر كل شيء .
توظيف الصوت
في بداية العرض وعلى وجه الخصوص، يتم استخدام شريط صوت مُسجل، تختلط فيه الأصوات ما بين أصوات غناء، حديث، قضيب قطار، دندنة، وغيرها. ومن ثم تظهر لقطات غاية في الجمال، وكأنها كادرات ثابتة لهذه السيدة. مثل ذلك التكنيك يتم الإستعانة به كثيرا في عروض المسرح، ولكنه هنا مخلوق في بهائية لا يضاهيها شيء، يبعث على استحضار حالة خاصة، من الذكاء أن يموضعها صانع العرض في بدايته، ليبث في متفرجه الشغف الكافي للمتابعة بإلتحام أكثر بما يحدث.
وعلى هذا المنوال وظف ‘شريف الوسيمي’ الصوت طوال العرض، على طريقة منمقة وواعية، لها منطقها في إفادة العرض، مع التنحي عن استخدام المزيكا والإستعاضة عنها بهذه المحاكاة.
الديكور والإضاءة
من الملفت هذا الديكور المتميز، الذي تمتع بذات المصرية التي تحدثت عنها في أول السطور. فبرغم بساطته أتى ليعبر عن تفاصيل منزل البطلة سواء الملموسة الحقيقية، أو تلك المحسوسة على المستوى الإنساني والنفسي، تلك القتامة المتوارية خلف الأشياء، السكون، ولمحة التبرم .
وبما أن الحدث يدور في إطار مكان واحد، وبهذا التكثيف المنهمك، فكان دور الإضاءة صعب في مجاراة حالة الهذيان تلك، التي تنتقل من ثانية لأخرى ما بين الكوميديا، والميلودراما. ولكن إضاءة ‘صابر السيد’ ألمت بهذه الفوضوية، وتبينت متعقلة ومقتصدة كعادة الأدوات التي ظهرت في العرض بأكمله، مما يعيد الدفة إلى عبقرية أداء دعاء من جديد. وعدم التعمد في التشويش على قدرتها في إدارة عرضها بأكمله.
آخر كلمتين:
مسرح روابط الذي تم العرض عليه، يحتاج إلى مزيد من الإمكانات التي توفر للمتفرج شيء من الراحة أثناء المتابعة، لأن من الملحوظ أن الطريقة التي يصطف بها المتفرجون، تأخذ من قوة يقظتهم ومتابعتهم للعروض، وهذا المطلب ليس تعجيزيا يتوقف على مدى الإمكانيات المادية، ولكنه يتعلق بمدى الحذق في العناية بساحة العرض في حدود ما هو متاح.
ما شاب أداء دعاء، انخفاض صوتها في أوقات إلى حد الهمس، ومع وضع المسرح السيء، إختفى صوتها تقريبا عن آذان كثير من المتفرجين، فحتى ولو كان المسرح على غير التجهيز الكافي، فإن الممثل المسرحي لابد وأن يمتلك صوتا جهوريا، مع الإبقاء على تلوين حالته والإحساس الذي يتخلله في كل وقت.
ثمة تنافر بين شكل الملابس التي ارتدتها البطلة في المنزل، والتي أقبلت على إرتدائها عندما عزمت على الخروج. فهذه العباءة التي همت على لبسها، يتضح عليها إمارات الرقي بشكل ملفت وكذلك الشال الذي لفته حول رأسها كغطاء رأس. مثل هذه التفصيلة، قد لا تكون ملحوظة، لكنها مهمة، فهذه هي الملابس الوحيدة التي تبدت بها البطلة طوال العرض على هيئة مغايرة، فلابد وأن يُراعى فيها مدى الموائمة.
‘صح النوم’ من العروض المسرحية المختلفة جدا، والتي تنأى بحالها عن المعالجات المباشرة حتى في رمزيتها والتي امتلأت بها الساحة المسرحية في الفترات الماضية، فهو من العروض التي كسرت هذه السمة الرائجة بجرأة وقوة بهذا التناول الإنساني الفريد من نوعه، والبعيد عن اللغط السياسي.

m2pack.biz