ابن الصحراء!

ابن الصحراء!

ابن الصحراء!

كنّا أبناء مدينة، وابن المدينة، يراك بنصف عين، ويسمعك بنصف أذن، ويمنحك على الأكثر نصف قلب، وإذا دعوته إلى ندوة ثقافيّة أو سياسية، جلس على نصف كرسي، وعينه على باب الخروج، إذا لم يتملّق كلامك غروره!فهو من ناحية يظنُّ أنّه يعرف كُلّ شيء، ومن ناحية أخرى، يحتفظ بنصف شكّه تجاه الآخرين!
وحكمة المدينة أكسبته قناعة أنّ نهاية العالم لن تكون بالإنتماء لحزب، أو توزيع المنشورات، أو الخروج في مظاهرة، أوالنجاح في تهريب مقالة مُتحدّية، على صفحات جريدة مغامِرة، ولا بقراءة الدولة والثورة لفلاديمير لينين، ولا معالم في الطريق للشيخ’سيد قطب’!وهو يعتقد أنّ في العيش فسحة بالرغم من ازدحامه بكل هذه المفردات، وحتّى البطالة والجوع والسخط الشعبي الّذي يصمّ أذنيه، لا يعيقه عن معاكسة فتاة أو الجلوس في مقهى، أو لعب دور شطرنج، أو الذهاب في رحلة متناسياً كلّ شيء، وتاركاً الهموم لأصحابها!
صاحبنا جاء من الصحراء، ولم تكن الصحراء كما قد يخيّلُ للقارىء، محمولة على كفّ السراب، وضائعة في بقعة ما، كانت تجثم غير بعيد، على أطراف المدينة المزدحمة، ولم تكن صحراء صاحبنا انبساطاً رملياً فحسب! بل كانت انبساطاً في الروح وفضاء مفتوحا لم تزحمه بعد، متناقضات المدينة، وألوانها المتنافرة، ببساطة كان لوحة غير مرسومة الخطوط! وكان يعي هذا جيّدا، ولذا صمّم على رسمها بنفسه، بدل أن يستسلم للتيّار، وينساب بارتياح، محمولا فوق اندفاعه الرتيب! ولذا كانت رفقته لنا اندماجاً مبرمجاً، حالة من التلقّي المفتوح، يتمّ تمحيصها وفرزها لاحقاً. هكذا كان دماغه يعمل تماما ككراسة بيضاء الصفحات، ترتسم عليها الحروف مسجِّلة كل ما استحق عنايتها، من الأحداث والعلاقات، بطريقة اسكتشية بارعة، وفي لحظات التأمّل والخلوة تترجم وتبسط في كتابات حقيقيّة، يشتقّ منها صاحبنا الخيارات والمواقف! وهكذا أصبح صاحبنا كاتبا كبيرا، وحين لم يسعه الشعر انتقل إلى النثر، أو ما سمّاه النثر الشعري أو الشعر المنثور!أمّا نحن فبقينا رِجلاً على إسفلت المدينة الهاربة، والأخرى هائمة في صحراء الكتابة وحدائقها، فأصبحنا نصف كتّاب ونصف مغامرين، ونصف سياسيين، وحين ساقتنا خطانا إلى المساجد، أصبحنا أنصاف متديّنين! ولكنّ الحكمة لم تُبلغ بعد، ولم ينجح كلانا في حلّ لغز العالم، لا نحن الأهلّة الّتي تنتظر الاكتمال، ولا هو الّذي ظنّ أنّ قمره استدار ليصبح بدراً، وكلانا يشعر أنّه أدّى رقصته الدائرية، ثُمّ توقّف بدافع الفضول، ليتبيّن موضع قدميه!وليرى أنّه قد أصبح على مقربة من نهاية العمر، فما الّذي أغفله يا ترى؟.
‘ كاتب من الاردن

m2pack.biz