العلمانية والشعوبية والشعبوية

العلمانية والشعوبية والشعبوية

العلمانية والشعوبية والشعبوية

تسمية الأشياء بأسمائها أولى الخطوات في طريق العلم والمعرفة. ولم يكن عبثا «وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا» فكل شيء محفوظ في دماغ هذا المخلوق الذي هو الإنسان. وما عليه إلا أن يسبر أغواره ليبتكر ويبدع في شؤون الحياة كافة.
المصطلح يحمل مضمونه للناس، فإن كان مخادعا سقط الغافلون عن الخديعة في هوة بلا قرار. ومثال على هذا: حين كنا في الدراسة الإعدادية، سمعنا بمصطلح العلمانية (وهو اشتقاق خاطئ لغويا) وقدموه لنا باعتباره علما لا يقبل الجدل، مثل معادلات الرياضيات أو جداول الكيمياء العضوية، أو قوانين الفيزياء.
ثم عرفنا أن لا علاقة للعلمانية بالعلم، وإنما هي ترجمة غير أمينة للفظ (Laique) الفرنسي و(Laicism) الإنكليزي وما اتسق معهما. ومعناهما محدد، هو: اللاديني، ولا علاقة له بلفظ العلم الذي هو عندهم (Science). وما كان يضيرهم شيئا لو صرحوا فقالوا الخطاب اللاديني أو النظام اللاديني.
ومن ذلك مصطلح الشعبوية الذي شاع وانتشر كالوباء، في وسائل الإعلام ومقالات الكاتبين العرب. شأنه شأن أي مصطلح يبتكره الآخرون، فصار الكثيرون يتصورون أنه يعني إرادة الشعب. وإرادة الشعب شعار مغر عندنا. وما دمنا قد وصلنا إلى الشعب، فلننظر في معنى الكلمة أولا.
قال اللغويون إن الجذر شعب له أصلان متناقضان: أحدهما يدل على الافتراق، والآخر على الاجتماع. وقالوا هو من الأضداد، أو أنه لهجة من لهجات العرب. وذكر الخليل أن من عجائب الكلام ووُسع العربية أن الشعب يكون افتراقا ويكون اجتماعا.
فمن الافتراق: انشعبت الطرق: تفرقت. وانشعبت أغصان الشجرة. وشَعَبَهم الموت فانشعبوا: فرّقهم فتفرقوا. والشّعب: الصَّدْع في الشيء. وما تفرق من قبائل العرب والعجم. والجمع شعوب. وفي الحديث: (ما هذه الفتيا التي شعّبت الناسَ) أي: فرقتهم.
ومن الاجتماع: الشّعب: الحيّ العظيم. ومشعب الحق طريقه. وشَعَبَ الصدع، أي: لاءمه. وتفرّق شعبنا أي كان موحدا ثم تفرق.
ومن الجذر مصطلح الشعوبية دلالة على الأقوام غير العربية التي دخلت الدين الجديد، ثم أرادت التخلص من السيطرة العربية. والمصطلح من الناحية اللغوية فيه كلام.
أما الشعبوية: فمصدر صناعي، ووصف بأنه على غير القياس اللغوي، إذ القياس كسابقه شعبي، وشعبية. وفي الأزمنة الحديثة كثر مثل هذا الاشتقاق، كما في: إسلاموي، وإسلاموية. يهمنا الآن بيان حقيقة أن مصطلح الشعبوية لا علاقة له بالشعب إلا من حيث إنه خداع له.
في البدء كان بعض أهل السياسة يعتبرون الشعبوية تهييج الشعب وكسب تأييده بدغدغة عواطفه والعزف على آماله وطموحه من غير أدلة ووثائق واقعية حقيقية، ووصفوها بأنها أكثر سوءا من الغوغائية (ترجمة الديماغوجية) التي شكلت سلوك كثير من الأنظمة منذ عصر اليونان. هذا البعد المعنوي للفظة ليس شائعا. فحين سمع العرب مصطلح الشعبوية تبادر إلى أذهان كثيرين منهم أنه نسبة إلى إرادة الشعب.
ثم حدث تطوير معنى الشعبوية. فقد ظهرت حركات وصفوها بداية بلفظ (Racism) أي عنصرية. ومن هذه الحركات النازية وغيرها. ولكنهم بدلوا هذا الوصف ونسبوه للشعب، فصار (Populism) وأضافت الفرنسية (e) في آخره، وأطلقوه على الحركات والأحزاب التي كانوا يصنفونها باعتبارها عنصرية. فأضحى خطاب تلك الحركات خطابا (شعبويا) أي معبرا، في فهم الكثيرين، عن إرادة الشعب، واختفى الوصف بالعنصرية.
وكأن تحويل المصطلح من العنصرية إلى الشعبوية، وعن طريق الإلحاح وتكرار كونه رأي الشعب عامة، أريد به الموافقة على ما سينجم عنه من ممارسات.
وتقبله الإعلام العربي والكتاب العرب متناسين مبدأه وغاياته. ولا شك في أن معظم العرب الذين يسمعون مصطلح (الشعبوية) لا يتصورون أن له علاقة بالعنصرية، فيواصلون تقبل الخطاب الذي هم على رأس قائمة ضحاياه.
ولله في خلقه شؤون.
باحث جامعي عراقي لندن
هادي حسن حمودي
شكرًا للكاتب علي التوضيح
مقال رائع ثري بالمعلومات القيمة. هناك العديد من المصطلحات الخطرة التي تغزونا وتغزوا ثقافتنا وهناك غياب شبه كامل للمصححين. شكرا جزيلا
العزيز الأستاذ رياض من ألمانيا، شكرا لرأيك تثمينا لموقفك من ضرورة تقويم المصطلحات التي أساءت وتسيء، للغة وأهلها. على أمل أن ينتصح المعنيون ويصححون مسارهم.

m2pack.biz