أبدية من ورق!
لنعترف بدءا أن هناك قطيعة ثقافية بين جيل المثقفين العرب في الستينيات أو ما يسمى العقد الفريد في القرن العشرين على مستوى العالم كله، وبين الأجيال التي أعقبته، والقطيعة ليست فقط في نطاق الأحداث، وفي مقدمتها حركات التحرر في القارات الثلاث المنكوبة بثالوث الفقر والتخلف والسّطو، بل في نطاق معرفي وتجريبي، وهنا سأقتصر على الجانب المعرفي، فما نشر وترجم من كتب في عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي هو ما صاغ الوعي والذائقة، وهذا ما أشار إليه مترجم كتاب ستانلي هايمن بالغ الأهمية في النقد، وهو أن النقد بمعناه الحضاري لا الاشتقاقي، هو تجسير للهوة بين المبدع والمتلقي سواء من حيث إضاءة النصوص وتفكيكها، أو إعانة القارئ على التواصل مع النصوص الإبداعية وتحوله من مستهلك إلى شريك.
إن أهم الكتب التي نشرت في تلك الفترة نفدت ولم تصدر في طبعات جديدة، ولو أخذنا مشروع الألف كتاب، الذي تضمن عددا من الأمهات والمرجعيات في مجال المعرفة، والذي صدر في القاهرة، مجرد مثال لا تتضح لنا كم هي الهوة والقطيعة بين الأجيال .
وذات يوم اخترت كتابا واحدا بعنوان «مغامرات العقل» يضم عشرات المقالات والأبحاث في مختلف فروع المعرفة، وقدمته لكاتب شاب كي يدرك حجم خسارة جيله من عدم قراءة هذا الكتاب، ولو شئت أن أذكر أمثلة أخرى فالقائمة تطول، ومنها «مسخ الكائنات وفن الهوى» للشاعر أوفيد و«النقد الأدبي واتجاهاته» لرتشاردز، و»الشعر والتجربة» لأرشيبالد مكليش، و«رباعية الإسكندرية» للورنس داريل، إضافة إلى معاجم أدبية فرنسية وإنكليزية منها معجم «غايتون بيكون»، وكذلك «فن الرواية» لبيريس وشعراء الرومانسية الإنكليزية شيلي وكيتس وكوليردج، وبين يدي الآن كتاب تضمن أكثر من عشرين حوارا مع مبدعين من القارات الخمس، أعدّه الكاتب فتحي العشري ولم يصدر في طبعة جديدة، وكذلك كتاب «مختارات من أشهر الكتب العالمية» لعبد المنعم سليم، وهو يندرج في خانة المتابعات ذات الطابع الموسوعي.
كتاب «قمم عربية وغربية» لفتحي العشري قدم حوارات مع سارتر وبالتحديد آخر حوار أجري معه، وفيليب سولير ولوكليزيو وجوليا كريستيفا وماركيز وروبير ساباتيه وفرانسواز ساغان وبورخيس وغيرهم، وهذا النمط من الحوارات يقدم للقارئ مفاتيح لقراءة من أجريت معهم تلك الحوارات.
يجيب ماركيز على سؤال حول جدوى الكتابة، خصوصا بعد اعتراف سارتر بأن روايته «الغثيان» بل مجمل كُتُبه لا يساوي شيئا أمام موت طفل، يقول ماركيز إنه احس بشيء كهذا بعد انقلاب بينوشيه في تشيلي وأحس بأن الكتابة لا تعني شيئا إذا لم يسقط الشعب الديكتاتور لهذا قرر التوقف عن النشر في عام 1975.
يقول ماركيز أيضا إنه يستخدم الآلة الكاتبة لخمس ساعات مُتتالية كي يكتب خمسة أسطر فقط، كما حدث له في رواية «خريف البطريرك». وفي حوار مع جاك لاكارير صاحب كتاب «الصيف الأغريقي» الذي حاور الحيوان والنبات والحجر ويتمنى لو أنه حشرة أو عصفور كي يكون جزءا عضويا من الوجود.
وفي الحوار مع جوليا كريستيفا ثمة شجن مزمن يُثار، فهي زوجة فيليب سوليرز وتعرّضت إلى اتهام بالتأثر بزوجها أو أصابتها العدوى من رؤاه ومنهجه، وهذا يذكّرنا بما تعرّضت له كاتبات عربيات كان قدرهن أن يكون ازواجهن كتابا أو شعراء .
تقول إن العلاقة بينها وبين زوجها ليست علاقة راعي أغنام مع راعية أو راعي أغنام بالخراف، فهي ليست نعجة كونها أنثى فلكل من الاثنين رؤاه ومواقفه وقراءته للعالم من حوله.
ومن الحوارات الجديرة بأن تُقرأ في كل جيل ما قاله جان دومرسون، الذي يرفض رغم كل ما نشره من مؤلفات أن يطلق عليه لقب كاتب، ويصر على أنه إنسان يحاول الكتابة لا أكثر ولا أقل، وحين كتب في جواز سفره أن مهنته كاتب شعر بأن في هذه الصفة مبالغة يحاول استحقاقها، وحين سئل عن فهمه للأبدية أو الخلود قال إنه من ورق، ليس استخفافا بالكتابة وأدواتها، بل تمجيدا لها باعتبار الكلمات هي البصمات الباقية والتي تمهر الكون، لأن ما يبقى أخيرا هو الكلمات تماما، كما أن البدء أيضا كان كلمة، وحين قرأت ما قاله دومرسون استبدلت على الفور عنوان هذه المقالة، بحيث اصبح كما قال: الأبدية من ورق!
وفي حوار مع بورخيس الذي استعاض عن البصر بالبصيرة، ورأى ما لم تره زرقاوات اليمامة، يقول إن الأدب يعكس الشائع عنه، إنه سعادة وليس معاناة، أما القراءة فهي أشد أثرا من الكتابة، وذكرى القراءة أبقى من القراءة نفسها، ويقول أيضا إن البعض ينصرفون عن القراءة خشية من الجنون وتلك شائعة تداولها من قرأوا سرفانتس ووصفه لشخصية دون كيشوت، ونحن قد ننسى ما كتبناه لكننا لا ننسى على الإطلاق ما قرأناه ، وفي حوار مع كلود مورياك أحد كتّاب ما سمي الرؤية الجديدة أو الرواية المضادة، نقرأ رأيا صادما للوهلة الأولى حول مهنة الكتابة، يقول لقد كشفت الرواية الجديدة عن التناقض في الأدب وهو انعكاس للتناقض في الحياة ذاتها، ويتجسد هذا التناقض بين ما نريد أن نكتبه وما لم ننجح في قوله، لهذا يجب أن تكون لدينا قدرة على قراءة الصمت وبالتالي ترجمته إلى لغة .
* * *
هذه مجرد اقتطافات من حوارات شملت مبدعين من مختلف القارات والثقافات وعدم قراءتها لأي سبب هو خسارة أكيدة، وحرمان لجيل تورمت فيه الذات حتى تسرطنت، فنحن بحاجة الآن إلى من يسمي نفسه إنسانا يحاول الكتابة، وإلى مبدع يكتب استقالته من الأوهام البشرية ويتمنى لو أنه حشرة أو شجرة تماما كما تمنى شاعرنا تميم بن مقبل لو أنه حجر وكما تمنى وايتمان لو أنه بقرة، وكما اشتهى كامو ذات نوبة وجودية لو أنه قط كي يكون خيطا في نسيح الوجود وليس متفرجا عليه!
كاتب أردني
خيري منصور