أسئلة التجربة العربية
ماذا يحدث للأدب عندما تتغير دعامة تجلَيه؟ إنه سؤال يرافق عادة – عملية انتقال الأدب من وسيط إلى آخر. ويحمل السؤال في حد ذاته، الوعي التاريخي بمنطق التحول الذي يعرفه الأدب في مساره. الأدب حالة متغيرة باستمرار. لا تعرف الثبات والاستقرار على شكل واحد، لأن للأدب علاقة بنيوية بتحولات موقع الفرد/الإنسان في المجتمع، والتاريخ، والحياة. لهذا، فالوسيط لا يعد مسألة شكلية، وغير وظيفية. يكفي أن نستحضر هنا، علاقة المطبعة بظهور جنس الرواية، كشكل تعبيري تجاوز الملحمة التي لم يعد شكلها/ نظامها يستجيب لأسئلة المرحلة الجديدة، إلى جانب تعبيرات جديدة ذات علاقة بطبيعة المجتمع الصناعي، مثل «الملصق». تصبح الأشكال الجديدة للأدب تعبيرات رمزية عن أسئلة مرحلة.
ولذلك، سيظل الأدب من أكثر التعبيرات الرمزية التي تحتضن مسار الإنسان في علاقته بذاته ومجتمعه، وفي توثيق رؤيته للعالم. إن الأدب خزان لمعنى وجود الإنسان. من هنا، تظل الحاجة إلى الأدب، حاجة ملحة إلى ذاكرة زمن التحولات التاريخية. فاللحظة الإبداعية لا يمكن أن تتحقق بنفس الرؤية في كل الأشكال، ومع كل الوسائط. تتم اللحظة الإبداعية برؤية، وعندما يختلف الوسيط المرتبط بتحولات اجتماعية واقتصادية وسياسية وعلمية، تأخذ الرؤية شكلا آخر.
عندما بدأ الحديث في المشهد العربي عن الأدب والوسيط التكنولوجي أولا، ثم الترابطي فالرقمي لاحقا بعدما بدأ الوعي بالمفهوم يعرف بعض الوضوح، حدث نوع من النقاش الذي عرف تجاذبا كبيرا بين رافضي هذه العلاقة بين الأدب والتكنولوجيا، ومدافعين عنها باعتبارها تمثل وضعية الأدب مع الزمن التكنولوجي، وهو نقاش وإن كان يعبر عن وجهتي نظر مختلفتين، فإنه في ذات الوقت يعبر عن كوننا بدأنا نعيش مرحلة تاريخية جديدة في مستوى تدبيرنا لذاكرة التحولات وفق شرط جديد. كما يعكس النقاش مع التأمل في طبيعته، الحالة التاريخية والمعرفية التي يعرفها الأدب، وهو ينتقل من وسيط إلى آخر. ويكشف عن كوننا بدأنا نتحرك من منطقة القارئ المألوف مع الوسيط الورقي، وإثارة السؤال حول وضعيتنا الجديدة مع القراءة عبر الوسيط التكنولوجي. نقاش يختصر علاقتنا بما تعاقدنا عليه من تقاليد في القراءة، وقدرتنا/جرأتنا على محاورة هذه التعاقدات، من أجل الوعي بوضعيتنا الجديدة، ليس فقط في القراءة والكتابة والأدب، إنما أيضا في معاملاتنا اليومية، وسلوكنا الوجودي، لأن حياتنا أصبحت عبارة عن استعمالات يومية لوسائط التكنولوجيا.
قد يبدو الأدب مع الوسيط الرقمي حالة تعبيرية معقدة ومركبة. ولذلك، فإنه يلقي ببعض الغموض على القارئ العربي، الذي يدخل مجاله بمنطق القراءة المألوفة. لهذا، يصبح المجيء إلى الأدب الرقمي سعيا لفهمه، ومحاولة لتمثل نظامه، خطوة نحو التحرر من ثقافة القراءة المألوفة، والانخراط في القراءة الرقمية غير الخطية، والمعتمدة على اللغة المعلوماتية وتقنية الرابط، والتي تدعم حضور القارئ باعتباره ذاتا مسؤولة عن اختيارها، وانتقائها، وصناعتها للمظهر التحققي للنص الرقمي.
النص الأمريكي «بعد الظهيرة» Aftenoon a Story والذي جعل الباحث Jay David Bolter يعد أول عمل أدبي رقمي، ألَفه «ميخائيل جويس، ونشر نسخته الأولى سنة 1987 نصا بدون قصة، ولا يتوفر إلا على قراءات. قد يفهم من هذا التعبير أن القصة غير موجودة أساسا في النص الرقمي، ولكن التأكيد هنا يركز على القراءة باعتبارها فعلا منتجا للنص، وليس قارئا له. وهذا النص الذي ينتجه القارئ حسب تفاعله، وقدرته على التعامل مع تقنية الرابط، يصطلح عليه الباحث الفرنسي
أي المحكي الخاص، الذيméta –récitب «ميتا – محكي»/ Pierre Barboza»بيار باربوزا»/ يكوَنه القارئ أثناء القراءة. القراءة هنا تأتي في مستوى الكتابة، لأن منطق الترابط يترك النص في وضعية التحقق غير المكتمل، وهو وضع يعكس طبيعة حضور القارئ الذي يوجد ضمنيا في شكل الترابط، أو في هذه المساحة الجديدة حيث يتحرك الأدب كثيرا، على حد تعبير الناقد الرقمي
إن ما يحدث في المجال الأدبي الرقمي، ليس قطيعة مع Jean- Pierre Palpe» جون بيار بالب»/
الآداب الأخرى التي تعتمد الورق والطبع، بقدر ما هو عبارة عن تغيير في سؤال الأدب، من منتجه المباشر المؤلف، إلى القارئ، ومن اللغة المعجمية إلى اللغة المعلوماتية.
الأدب والمنطق الترابطي، علاقة متداخلة بين التخييل الأدبي والتقنية التكنولوجية، والتي تنتج شكلا من الكتابة، يأتي عبارة عن مجموعة من الوحدات التي يربط بينها عدة روابط، تسمح بالمرور السريع بين الوحدات، حسب وضعية القارئ، وثقافة تفاعله مع تقنية الرابط، غير أن هذه العلاقة ما تزال لم تشكل بعد تراكما مهما في التجربة العربية،على الرغم من سرعة الانخراط في الوسائل التكنولوجيا. للإجابة على هذا السؤال، نقترح الأسئلة التالية:
* هل وصلنا في الثقافة العربية إلى إنتاج قارئ مدرك لوضعيته داخل النظام الجديد للكتابة؟
* ألا يتعلق الأمر بوضعية « الفرد» العربي في دينامية الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية العربية؟ – هل يحضر « الفرد» العربي في واقعه التاريخي شريكا حقيقيا في التدبير السياسي والاجتماعي؟.
نقرأ سؤالا آخر، يبدو مهما أيضا: لماذا نتوفر-عربيا- على مجموعة كبيرة من الكتب النظرية في مجال الأدب الرقمي، ونلتقي بنقاشات حادة حول الموضوع، ووجدنا الدرس الأكاديمي ينفتح على الأدب الرقمي من خلال تكوينات علمية، وظهور بحوث جامعية أنجزها طلبة عرب حول الأدب الرقمي، إلى جانب تنظيم مؤتمرات ولقاءات تنتصر للثقافة الرقمية، في الوقت الذي ما تزال عملية الإنتاج/ الإبداع الرقمي ضعيفة، ولا تمثل مستوى الاهتمام النظري/النقدي؟.
لعل الجواب يبدأ من التساؤل حول علاقتنا بالتكنولوجيا في حياتنا اليومية، وفي سلوكنا، وفي شكل تعاملنا مع المستجدات في الوسائط التكنولوجيا. إذا كانت التكنولوجيا في أمريكا وباقي الدول التي تجيد استثمارها، تحضر باعتبارها أداة خدماتية، تقدم خدمات تقنية ووظيفية للفرد، وتسمح له بتحسين يومه، وحياته، وتنظيم وقته، مما يسمح له بتدبير إيجابي لحياته، وتوفر له التكنولوجيا بخدماتها التي تتطور بإيقاع سريع، مساحة من حرية التفكير، والإبداع في حياته، وتطوير علاقته بذاته. فهل تحضر التكنولوجيا في مجتمعاتنا العربية آليات خدماتية، تخدم المواطن العربي ، وتعمل على تحسين نمط حياته، وتدبير وقته؟، وهل انتقل الفرد العربي في علاقته بالتكنولوجيا من المستهلك إلى المنتج؟ وهل أنتجت هذه العلاقة مواطنا يشبه سلوكه منطق الزمن التكنولوجي؟. ألا نعيش نفس سؤال الحداثة بين ازدهارها في الخطاب النظري العربي، وإكراهات جعلها سلوكا اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا؟.
إن التفكير في علاقة الكتابة الأدبية بالمنطق الترابطي في التجربة العربية، هو في ذات الوقت تفكير في شكل تمثل التكنولوجيا في حياتنا اليومية، ومدى التفاعل معها إنتاجا. وبالتالي، تصبح كل محاولة ومغامرة في تجربة الكتابة الترابطية، كما هو الشأن مع الكاتبين الأردني «محمد سناجلة» والمغربي «محمد اشويكة» وغيرهما، تأسيسا لذاكرة النص الترابطي في علاقته بواقع التكنولوجيا في السياق العربي.
هذه الذاكرة التي ستشكل تاريخ الوعي بثقافة الأدب الرقمي، والتي ستتحول – مستقبلا- إلى مرجعية لقراءة مسار انتقال الأدب في التجربة العربية من وسيط ورقي إلى آخر رقمي، مع توثيق شكل الوعي العربي بعملية الانتقال الوسائطي.
د. زهور كرام