“أطلس الحياة المستحيل” الحياة الخاصة والعالم الكبير
عن “دار الآداب” رواية الكاتبة الهندية أنوارادا روُي، تحت عنوان: “أطلس الحنين المستحيل”، والترجمة لمحمد درويش. رواية صادرة أصلاً باللغة الإنكليزية العام 2008، ترجمت حتى الآن إلى خمس عشرة لغة من لغات العالم الحية، وها هي الترجمة السادسة عشرة باللغة العربية، تؤكد مكانة هذه الأديبة التي ما زالت في مقتبل العمر من جهة أولى، والملتزمة من جهة ثانية بتقديم نموذج أدبي، روائي ومتفوق على كثير من النماذج الأدبية المطروحة في سوق الأدب، لا سيما إن كان هذا النموذج يمثل صورة إبداعية لثقافات محلّية يمتزج فيها الماضي الموغل في قدمه مع الحاضر الذي لا يستطيع أبطاله الخروج من دائرة الحنين القاتل، أحياناً، إلى كل ما يشدهم إلى ذلك الماضي الماضي الذي لا يخلو في كثير من الأحيان من الخرافة والكهانة والتقاليد الأسرية والمجتمعية التي قد لا يستطيع أحد تجاوزها بأي حال من الأحوال، لأنها تشكل أصلاً جزءاً لا يتجزأ من شخصيته وحياته عامة كانت أم خاصة.
الرواية عن “أموليا” المهاجر من مدينته إلى سونغارة سعياً وراء الرزق وهرباً من ماض يؤرقه، وزوجته كانابالا التي لا تجد في حياة البلدة الصغيرة أي حياة بعد أن ابتعدت عن أهلها وذويها في كالكوتا الصاخبة، وبابوبيكاش الذي يضطر إلى مواجهة الحياة في أشد صورها قساوة، ونرمال، إبن أموليا وكانابالا الذي هام حباً بتاريخ بلاده العريق فراح ينقب في آثار قلعة موغلة في القدم في إشارة واضحة لربط الماضي بالحاضر، وغير هؤلاء من شخصيات هذه الرواية.
مقومات نجاح هذا العمل الروائي تكمن في منهج الروائية في معالجة أحداثه، تلك الأحداث التي تمتد على مدى ثلاثة أجيال وتغطي مساحة زمنية لا تقل عن نصف قرن من الزمان (19071956) يمتزج فيها التاريخ الأسري الآيل إلى الزوال لهذه الأجيال في تاريخ الهند السياسي المفعم بالاضطرابات والتقلبات العنيفة والآمال العظيمة والخيبات والانكسارات المريرة التي تسجل الكاتبة وقائعها المأساوية.
عمل أول للكاتبة روُي حقق نجاحه من كونه عملاً روائياً بانورامياً، إذا جاز التعبير، قوامه خيال الكاتبة البلاحدود، وإن كان يستند في كثير من الأحيان إلى تجربة حياتية واسعة من عمر المؤلفة. فهي التي أمضت طفولتها متنقلة في جميع أرجاء الهند بحكم عمل والدها في المسح الجيولوجي الذي تطلب منه الكثير من التنقل، والتنقل في الهند، كما لو من قارة إلى قارة لأن الاتصالات قبل ثلاثين أو أربعين عاماً كانت غير معروفة، كما كان التلفاز والإنترنت غير معروفين، ومع ظهور هذه الوسائل تغيّر كل شيء في الهند كما في سائر أنحاء العالم مما طال المأكل والمشرب واللغة وطرز العمارة، وأساليب التعليم ومناهج التربية.
في الرواية، نجد أن الهروب من الوقائع إلى بناء علاقات تختارها أبطال الشخصيات بنفسها قد لا تكون مخرجاً آمناً، فضلاً عن أن السعادة المنشودة لا يمكن أن تستمر طويلاً. فالحنين إلى الحب يظل عنصراً طاغياً في الرواية، الحب الكارثي بين الزوج نرمال وزوجته شانتي، والحب المأسوي بين السيدة بارنوم وعشيقها، والحب بين باكول ابنة نرمال والفتى موكوندا، ذلك اليتيم المجهول الأصل (من طبقة المنبوذين). هذه الشخصيات وأخرى غيرها، تسعى إلى الخلاص من قدرها وجذورها التي تراها عائقاً أساسياً أمام سعادتها وتقدمها، وترى أيضاً العالم يسير من حولها من دون أن يلتفت إليها، بل ويقسو عليها قسوة بالغة.
إن الحنين الذي يطغى على أجواء الرواية هو حنين الشخصيات المستحيل، حنين يطحنه الزمان والعادات ووضاعة البشر واستغلالهم في كل زمان ومكان، وهي رواية عن العزلة والوحدة، على حد تعبير المؤلفة نفسها، والحب والطبيعة المفقودة والهجرة إلى المدن، وهي موضوعات تتطلب أسلوباً هادئاً، بطيء الإيقاع، ولهذا جاءت الأحداث في النصف الأول من القرن العشرين مختلفة في الأسلوب والإيقاع الاختلاف كله عن أسلوب الأحداث التي تحدث في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين.
في رواية “أطلس الحنين المستحيل” يجد القارئ نفسه ومنذ الصفحات الأولى، وقد جرفته الأحداث المتلاحقة فيها، فينتاب القارئ الإحساس نفسه الذي يعتريه عند قراءة كلاسيكيات الكتب من طراز “الآمال الكبيرة” لتشارلز ديكنز، أو رواية “اختيار صوفي” أو “لاعب الطيارة الورقية”. المؤلفة تحدّد شخصيات روايتها بمهارة بفضل امتلاكها دقة ملاحظة لكل ما يحيط بها من أجواء طبيعية، وهي تعرف جيداً كيف يمكن الحياة الخاصة لشخصيات روايتها، رسم شكل العالم الخارجي الكبير.