أفكار الجماهير 1من اصل2
كنا قد درسنا في كتاب سابق دور الأفكار بخصوص تطور الشعوب، وبرهنا على أن كل حضارة مشتقة من عدد صغير من الأفكار الأساسية التي نادرًا ما تجددت أو تغيرت. وقد شرحنا كيف تنغرس هذه الأفكار في روح الجماهير، وهول الصعوبات التي تصطدم بها قبل أن تنفذ إليها. كما وبينا أيضًا أن الاضطرابات التاريخية الكبرى تنتج غالبًا عن المتغيرات التي تصيب هذه الأفكار الأساسية.
ولما كنت قد عالجت هذا الموضوع بما فيه الكفاية، فإني لن أعود إليه. وسوف أكتفي بقول بعض الكلمات عن هذه الأفكار السهلة الموجودة في متناول أيدي الجماهير، وتحت أي صيغة أو هيئة تتصورها الجماهير.
ويمكننا أن نقسم هذه الأفكار إلى فئتين. في الفئة الأولى نضع الأفكار الطارئة والآنية العابرة التي تتشكل تحت تأثير اللحظة. نضرب على ذلك مثلًا الانبهار بفرد ما أو بعقيدة ما. ونضع في الفئة الثانية الأفكار الأساسية التي تقدم لها البيئة والوراثة والرأي العام استقرارًا كبيرًا. نذكر من بينها الأفكار الدينية سابقًا، والأفكار الديمقراطية والاجتماعية اليوم. (المقصود بالاجتماعية هنا الاشتراكية أو العدالة الاجتماعية).
ويمكن تشبيه الأفكار الأساسية بواسطة مياه نهر يجري ببطء، وأما الأفكار العابرة فتشبه الأمواج الصغيرة المتغيرة دائمًا والمتحركة على السطح. وعلى الرغم من أنها غير ذات أهمية حقيقية فإنها أكثر ظهورًا ووضوحًا من مسار النهر نفسه.
وفي أيامنا هذه نلاحظ أن الأفكار الكبرى الأساسية التي عاش عليها آباؤنا قد أصبحت مهتزة أكثر فأكثر. وبالتالي فإن المؤسسات التي ترتكز عليها قد أصبحت مزعزعة إلى حد كبير. والآن تتشكل الكثير من الأفكار الصغيرة المؤقتة التي كنت قد تحدثت عنها للتو. ولكن يبدو أن القليل منها مؤهل لأن يمارس تأثيرًا مهمًا أو دائمًا.
وأيًّا تكن الأفكار التي تُوحَى للجماهير أو تحرض عليها، فإنه لا يمكنها أن تصبح مهيمنة إلا بشرط أن تتخذ هيئة بسيطة جدًا وأن تتجسد في نفوسها على هيئة صور. وليس هناك أي رابط منطقي من النوع القياسي أو المتوالي يربط هذه الأفكار- الصور فيما بينها.