أكتب كلمة «مكابح»… لكن بالعربي
بدت لافتةً السرعةُ التي أنجز فيها الشبّان كتابة تلك الجملة على هواتفهم المحمولة. كانت جملة فصيحة، بل أكثر من فصيحة بحسب ما ترى المذيعة التي تجري معهم تحقيقها التلفزيوني.
«أكتبْ: مكابح سيارتي معطلة» كانت تقول لكلّ منهم، مفترضة أن في اختيارها لكلمة «مكابح» ذهابٌ في اللغة العربية إلى آخرها. كان ينبغي لها ذلك طالما أن ما دعاها إلى القيام بتلك المقابلات هو الاحتفال بما أطلق عليه «يوم اللغة العربية». ولكي يتاح لنا أن نشاهد، نحن متابعي التحقيق، ماذا كتب الشبان هؤلاء، كانت تُعرض لنا شاشات الهواتف الصغيرة مضخّمة على شاشة التلفزيون. ولم نفاجأ حين رحنا نقرأ تلك الفصاحة (المفترضة) بحروف لاتينية، مرّة بعد أخرى، فنحن كنا مهَيئين لذلك من مشاهدتنا المستمرة لما يكتب في الفيسبوك. لكن، لكي يبلغ الإمعان في رثاء العربية، وهو رثاء بدا في ذلك التحقيق غير حزين على أي حال، مداه الأبعد، راحت المذيعة تسأل كل واحد منهم إن كان يستطيع أن يكتب هذه الجملة العربية «بالعربي». «لا أعرف»، قال واحد. آخر قال إنه يحتاج إلى عشر دقائق لكتابة ما كان كتبه، بالحرف اللاتيني، في 15 ثانية. ثالث ضحك. رابع سخط كيف أن عليه أن يلجأ إلى إدخال الأرقام (العين والغين والحاء والخاء والألف المهموزة) بين الحروف.
كان الاحتفال بذلك اليوم قد بدأ مستبقا تاريخه في 18 كانون الأول/ ديسمبر بأن أجريت مقابلة مع أحد مسؤولي الجامعات الخاصة، ذكر فيها أن الطلاب دارسي الأدب العربي هم في تناقص مستمر، وقد وصل العدد هذا العام 2016، إلى الصِفر. «لدينا صفر طلاب في مادة الأدب العربي» قال. وهذا ما عادت مذيعة تلك الحلقة إلى قوله، لكن بما يخص أحد فرعين كبيرين في الجامعة اللبنانية الرسمية هذه المرّة، موضحة أن الصفر هو أيضا هنا وليس فقط هناك.
«لكن أين ذهب الفقراء؟» تساءل صديق لطالما رأى أن الأدب العربي هو ما يختاره، أو ما يستطيعه، الفقراء، أولئك الذين يصلون إلى الجامعة بإعداد متعثّر في ما خصّ كل من اللغتين الأجنبيتين، الفرنسية والإنكليزية. ثم غنهم الأقرب إلى اللغة العربية طالما أنهم متخلّقون بأخلاقها ولا يرطنون بسواها. كان هؤلاء، وهم بعد في الجامعة، جنودا في حرب اللغات الدائرة آنذاك، متّبعين، بل ومخترعين، ما يُذمّ به التفرنج وتبديل الناس لجلودهم… إلخ. كانت حربا متكافئة آنذاك بينهم وبين خصومهم، وكان ممكنا لها أن تستمرّ على حالها طالما أن كلّا من طرفيها كان مقتنعا بأن حصّته من الانتصار فيها محفوظة له.
«لكن أين ذهب الفقراء؟» أولئك الراضون بالماضي حصّة لهم من الزمن، بدءا من العصر الجاهلي، مرورا بعصور الأمويين والعباسيين، إضافة إلى ما كنا نسميه العصر الحديث الذي كان قد سبق مئة عام من ذلك التاريخ، تاريخ دراستنا الجامعية في السبعينيات (القرن الماضي). حتى في زمن السبعينيات ذاك، الذي بدا مستقرا في سباته ومبقيا في حاضره على الأزمنة التي سبقته، كان الطلاب راضين بالماضي محتفلين بما كان فيه، أما الآخرون، من غير الفقراء، فراحوا يتطلّعون إلى ما سيحمله المستقبل من تغيير، مبتعدين هكذا عن الثقافة التي «لا تطعم خبزا».
الأدب العربي، الذي استمر حيا لأكثر من ألف وخمسمئة سنة تكفّلت هذه العقود الأخيرة بإماتته أو طيّ صفحته على الأقلّ. لم يعد الشعر، ولا الأمثال المتداولة، ولا المآثر الحكائية واللغوية حاضرة في وعي الناس وكلامهم اليومي. بات الاستشهاد ببيت شعر للمتنبي دالا على انتساب قائله إلى زمن لم يعد موجودا (وهذا في وقت لم تتقاعس جامعات لبنانية، وعربية على الأغلب، كثيرة عن المشاركة في المناسبة العالمية بالذكرى الأربعمئة لرحيل وليم شكسبير).
أولئك الفقراء الذين يتساءل عنهم الصديق لم يعودوا هنا. بقي منهم أولئك الذين ظهروا في ذلك التحقيق خالطين نثار الأبجديات فيما هم يكتبون تلك الجمل التي يتخاطبون بها معلنين عن تأخّر وصولهم على الموعد، مثلا، أو عن إرفاقهم صورة أو نكتة على «الواتس آب». هي أجزاء صغيرة من لغات وأفكار وعيش يومي تتجمّع مثل أبجدية بادئة لا يُعرف إلى أين ستفضي، أو ربما هي ستستمر هكذا خليطا عاكسا الخليط الذي في الرأس. لم أعد أذكر مَن هو، من بين مفكّري العرب القدماء، الذي ردّ هذا الضرب من الفوضى إلى غياب السلطان. قال ذاك المفكّر، أو تساءل، كيف في غيابه (السلطان) سيستقيم رفع الفاعل أو نصب المفعول.
روائي لبناني