أمنية معكوسة . “شبّيك لبّيك خادم المصباح بين يديك”

أمنية معكوسة… “شبّيك لبّيك خادم المصباح بين يديك”

أمنية معكوسة... 'شبّيك لبّيك خادم المصباح بين يديك'

مر في جنح الليل يبحث عن فرصة يغنمها من دون رفاق الليل. لفت نظرَه في زقاقٍ نافذةٌ مواربة في بيت زادَه الزقاق ظلمة إلى ظلمته. همس في نفسه “تلك فرصتك!” ثم التفت يمينا، لا أحد، وشِمالا، لا أحد، وإذ لم يرَ أحداً حسِب أن لم يرهُ أحد فقفز بخفة رغم بنيته القوية الظالمة كأنه قطّ ضخم رشيق. حين حطّ اكتشف أنه مَرَّ من زقاق ضيق مظلم إلى زقاق داخلي أضيق وأظلم. استغرب ثم استبشر. يبدو أن الأمر همسة دسمة ومستودع للبضائع.
تلمس الجدران القريبة فإذا هي أكوامُ علبٍ مصفوفةٍ بإحكام عن يمين وشمال، بينها ممر ضيق كأن الساكن هناك بقالٌ نحيفٌ رغم الوفرة. لم يستطع أن يتقدم عرْضا، بل على جنبه وبالكاد، ثم إنه الآن تحسر أن أتى من دون الرفاق. الاتحاد قوة؛ على حقٍّ كان أو على باطل، وأولُ الباطلِ الفقر. حاول قراءة حروفٍ فوق العلب، لكن الظلام حال بينه وبين فك رموزها. أخرج بطارية جيبٍ صغيرةً، وضع أصابعه على زجاجها، أوقدها وصوَّبَ ما رشح من شعاعها بين أصابعه وتهجَّى “هنريس” ثم صوَّب نحو الثانية والثالثة والعاشرة. كل العلب أجمعت على “هنريس”. أتم السير جنبا بينها حتى بلغ الباب، أدار المقبض فإذا بالدفة تنفتح على ممر ضيقٍ، وسرعان ما حصرها جدار عريض من ..علب “هنريس!” القاعة كانت أوسع من الأولى ومليئة بعلب كأنها كانت جميعها تهمس “هنريس.. هنريس.. هنريس”
فرصة خاثرة!
عبَر ثلاثَ حُجرات على المنوال عينه. ممر ضيق بين فِرْقين من عُلبِ البسكتة. لا بد أنه يمقتها الآن. أولا لحجمها العصي على غنيمة ليلية كان يحبذ أن تكون ثمينة خفيفة غير فاضحة، هاتفا أو خاتما. ثم لأنه في طفولته لم يشبع من “هنريس” قط وكانت هي البسكتة المثلى يومَها، ولما كبُر صار كلما أكلها كهربت حلاوتُها الزائدة أعصاب أسنانٍ عراها السُّوس.
ثم بدا له في نهاية نفق هنريس شعاعٌ أبيض خافت فقصده على جنبه وفي بعض الأحيان مطأطئا رأسَه إذ تكونُ العلبُ سقفًا قريبًا. بلغ مصدر النور. غرفةُ نوم عن شمالها جدار هنريس، وعن اليمين سرير تمددت عليه عجوز مُفَتَّحةَ العينين مثل نوم العرائس. حين دخل رفعت رأسها في وهَن شديد وقالت في غير خوف ولا وجل: “من هناك؟” كأن أسوأ ما في الحياة قد خلفته وراء ظهرها. مكثت برهة تنظر إليه ولا تبصر. تجمد مكانَه بينما هي تكرر السؤال عينه وتنظر في غير اتجاه. فهم أنها كفيفة، فلم ينبس بكلمة، وحين طال الصمت عادت للامبالاتها مطمئنة. لا عدو هناك حقاً.
لفته على مائدة نومِها مصباح كمصباح علاء الدين السحري. هناك تيقن أنّ فرصته الآن فقط قد بدأت فعلا وأن علب البسكتة محض مُقبِّلات. لا بد أن غرابة المكان من غرابة المصباح. تقدم بحذر شديد، تناوله بين يديه، وما إن مسح عليه حتى انبعث العفريت من القمقم صارخا صراخا شديدا مبالغا غير طبيعي إن كان للعفاريت طبيعة:
– شبيك لبيك.. خادم المصباح بين يديك..
رغم أنّ صوت العفريت قد صك أذنه وأسنانه، فقد كان فرحا ومنشرحا.. قضاءُ الحوائج سيشفع للحضور الثقيل وللعويل، وببسمة عريضة كالآمال العِرَاض، طفق يسألُ حاجاتِه كلها، بينما العفريت لا يفتأ يصرخ مستفهما هو الآخر:
– ها.. أعِد يا مولاي ما قُلت.. ها .. أعِد يا مولاي ما قلت.. ها.. أعد يا مولاي..
وكان المسكين من فرط فرحه يعيد ويعيد متمنياتِه وطلباتِه المُرجَأة منذ الصبا، حتى نطقت العجوز الضريرة قائلة:
– يا ولدي.. لا تتعب نفسك.. إنه عفريت أبله وثقيل السمع.. منذ ستينَ سنة وأنا أسأله أن يأتيني بعَرِيس وهو يأتيني كل يوم بعلبة “هنريس”.

m2pack.biz