أنا الآن في مركز الكون
[caption align="aligncenter"]أنا الآن في مركز الكون[/caption]البحث عن مركز الكون وسرّة الدنيا، كما يقول أجدادنا العرب، قديم ففي الحضارة الإسلامية وُضعت كتب ورسائل كثيرة تثبت أنّ الكعبة مركز الكون؛ وصُمِّمت بعضُ الخرائط العربية القديمة بهذا الاعتبار. ولكنّ خرائط العالم اليوم فيها مركز آخر للكون تحتلّه القارّة الأوروبيّة العجوز وقد تصنع خرائط تكون فيها بلاد أخرى هي المركز. غير أنّ هذا التّمركز حول قطب حضاريّ أو جغرافي أو ديني أو سياسيّ ليس إلاّ وجها من وجوه المركزيّة البشريّة التي خلفها تتخفّى مركزيّة الشخص. لا نحتاج دليلا بعيدا عنّا حتى نثبت كم أنّنا نحتلّ في اليوم مرّات مركز الكون، ولكنّنا نُخلع عنه وكلّ ذلك بالكلام. فيكفي أن تقول (أنا الآن في مركز الكون) حتى تكون بالفعل في مركز الكون، بل ستظل في مركز الكون حتى لو قلت (لست في مركز الكون) ولو قلت لي الآن (أنا لا أصدّقك) فستكون قد مارست بامتلاء مركزيّتك. لنضع المسألة في إطارها اللساني وفي هذا السياق لا بدّ لنا من أن نذكر اللساني الفرنسي إيميل بانفينيست (1902 1976) الذي حلّل بدقّة متناهية هذه الفكرة. فحين كان اللّسانيّون منصرفين في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته إلى البنيويّة الأوروبيّة والتوليدية الأمريكية وحين كانوا يردّدون أنّ اللغة أداة تواصل كان بانفينيست يعتقد أنّ اللغة أكثر من أداة، إذ هي مكانٌ للحياة وأنّها بالتالي مكان مفضّل لأن يمارس الإنسان ذاتيّته بمجرّد أن يبدأ بالكلام. لقد طرح بانفينيست هذه الفكرة في إطار ما سمّاه بالتلفّظ. فحين يتكلّم الإنسان، فإنّه يكون قد استعمل مؤسّسة جماعية هي اللغة استعمالا فرديّا، ويمكن أن نسمّي ذلك «حدث استعمال». لذلك فإنّ التلفّظ في رأي بانفينيست هو جعل اللغة تعمل بواسطة حدث استعمال فرديّ. ولكنّ التلفظ هو عنده أكثر من ذلك، فهو عمليّة متجدّدة بمقتضاها يستعيد المتكلّم امتلاك اللغة كلّما أخذ في الكلا م.وهذا يعني أنّك وأنت تتحاور مع غيرك لا تتكلّم فقط بل تتملّك اللغة، وحين تتملّكها تكون فرصتك سانحة في أن تعبّر عن ذاتك المتلفّظة، بل تبني تلك الذات المتلفظة باللغة؛ ولذلك يرى بانفينست أنّ اللغة دون غيرها من وسائل التواصل هي التي تبني أفضل ما يكون متصوّر الذّات وههنا يقول شيئا يبدو كالعجيب إذ يعتقد أنّ ما يسمّيه «التلفّظ بالذاتيّة»، وهو عنده المجال الذي تظهر فيه ذاتيّة المرء، يظهر في اللغة بشكل موضوعي، ذلك أنّ المتكلّم لا يكلّف نفسه أيّ جهد في أنْ تتحدّد الأشياء والأكوان التي فيها تلك الأشياء بالنسبة إليه وفي اللغات الطبيعية الكثير من الوسائل والأساليب التي يظهر فيها المتكلم مركزا للكون. يكفي أن تنطق محيلا على نفسك بضميرها البسيط (أنا) لتبدأ أكبر عملية تملّك للكون وأيسرها على الإطلاق. لأنّه بالنسبة إلى (أنا) تتوزع الضمائر بحسب التفاضل التدريجي من المركز (أنا) إلى الطرف القريب (أنت وأخواته) فإلى الطرف المتناهي في البعد والغيبة (هو وأخواته). يكون المتكلم مركز الكون ولا يمكن أن يتعرّف أيّ من هذه الضمائر من دون الرجوع إلى (أنا) التي ليست صفة ثابتة ولا ملكية أبديّة لشخص دون شخص، إنما هي تاج يقع على رأس من صار متكلّما. وحين تكون (أنا) المتكلّم موجودة تتأسّس بالنسبة إليها الأزمنة والأمكنة والإحالات. إذا قلت: (جلست هنا الآن) أو (سأجلس هناك غدا) فإنّ (هنا) و(هناك) يتحدّدان قربا وبعدا بل وجودا- بما هما مشيران مقاميّان إلى الفضاء- بموقعي أنا ( لا حيث أجلس، بل حيث أقول إنّي اجلس) وليس بأيّ موقع فأنا أصبح مقاميّا معلما يتحدّد به ما ستعمل (هنا ) و(هناك) للإحالة عليه. كذلك الأمر بالنسبة إلى (الآن) و(غدا) فإنّهما يتحدّدان بالزمن الذي تلفّظت فيه بهما؛ ف(الآن) هو زمن مقترن بزمان كلامي ولا وجود له خارج نطاق نطقي وعملية التحدث التي أنجزتها هي التي خلقته. وكذلك (غدا) فإنّه لا وجود له إلا بالنسبة إلى يومي الذي نطقت فيه بما نطقت. وكذلك الأمر لو قلت: (بعد ساعة) أو (بعد قرن) أو ( قبل دقيقتين).. فلا وجود لزمن منها في المواقيت إلاّ إذا ضُبطت على الوقت الذي نطقت فيه هو المسمّى »زمن التلفّظ»، بل إنّ الفعل الماضي (جلس) والفعل المستقبل (يجلس) يتحدّدان بزمن التلفظ هذا، أي بزمن تلفّظي أنا بالجملة. ولقد نبّه إلى هذا الأمر النحاة العرب القدامى حين ميّزوا بين زمن الحدث وزمن الحديث (أو زمن الإخبار) واعتبروا ماضيا من الأفعال ما كان زمن الحدث (الجلوس هنا) سابقا لزمن الحديث (أي التلفّظ بالقول: جلست) واعتبروا مستقبلا ما كان زمن الحدث فيه لاحقا لزمن الحديث فأنت تقول الآن ما تقول عن جلوس حدث (جلستُ) أو عن جلوس سيحدث (سأجلس). فليس الماضي والحال والاستقبال في الأفعال أزمنة فلكيّة كما يعتقد البسطاء فابن يعيش النّحوي حين قال في «شرح المفصّل» معرّفا الفعل الماضي بانّه «ما يكون زمان الإخبار عنه قبل زمان وجوده» يحيل على ما يسمّى بزمن التلفّظ الذي هو زمان المتكلم؛ وكان ابن الحاجب دقيقا حين عرف الماضي بانّه «ما دلّ على زمان قبل زمانك» فاعتبر «الآن»، وبعبارة صريحة زمانا للمتكلم. إنّ الزمن اللغوي كما يقول بنفينيست ينتظم حول مركز هو حاضر التلفّظ الذي هو مختلف عن الزمن الكرونولوجي. لا نريد أن نسكت حيث سكت اللّساني عن السّبب الذي جُعلت له اللغة مجالا محبّذا لهذه المركزية الإنسانية. وبعيدا عن رمي الإنسانية بما تُرمى به من نزعة للتملّك – التي قد تراها جبلّة فيه – فإنّنا نعتقد أنّ للمسألة عمقا في اتّجاه آخر هو الاتجاه الإدراكيّ. إذ يخلق الإنسان ويوضع إزء عملّيات معقّدة عليه أن يعالجها ليفهمها؛ وما عُدّ ههنا مركزيّة للذات المتكلّمة في الخطاب هي حلّ يُعاد فيه توزيع العلاقات بين الأشياء بحسب عنصر إحالي معيّن هو ذات المتكلم ويتأسّس تبئير الإدراك بعد هذا التأسيس عليها وبذلك تنتقل إليه بؤرة الانتباه ويصبح إدراكيّا مركز الإحالة فيحيل على نفسه على أنّه معلم وعلى غيره على أنها مناطق إدراك فرعيّة. قد تكون الإحالات متطابقة مع الواقع وقد لا تكون؛ وفي هذه الحالة نحن نحكم تصديقا أو تكذيبا بل نكتفي بتتبع الإحالة وهي تعمل. نتتبّعها حتّى لو كانت أعظم ممّا يمكن أن ندركه بيسر. ففي قول الحلاج (أنا من أهوى ومن أهوى أنا) لا يكفي أن تعرف من يتحدّث حتّى تُحسن الفهم ففي المسألة معالجات أخرى تتجاوز الإحالات المرجعية البسيطة و مجرّد تملّك الخطاب ومركزيّة الذات المتكلمة إلى ما فوق ذلك من الجهد الإدراكيّ ؛ حيث المركزية تنحلّ و تصير إلى ضرب من الامتزاج في الماهية يعجز عن إدراكه بمجرّد القول إنّ هناك مركزا واحدا يتملّك الخطاب يحال عليه ب(أنا) والبقيّة تنسب إليه فالمسالة الإدراكيّة أكثر تعقيدا. لنعد في النهاية إلى جملة (أنا لا أصدّقك) التي قلنا إنّك بمجرّد أن تقولها ستدخل في تملّك للكلام وفي مركزيّة تجعلك محور الكون في اللغة. قارن ذلك القول الآن بقولك: (أنا الآن أقلّ تصديقا) وانظر أيّ الجملتين تكون فيها أكثر تملّكا للغة؟ أستاذ اللسانيّات في الجامعة التونسيّة
]]>