إطلالة أولى على رواية «ليلة الأفك» لمنصف الوهايبي.. دوي الجلد
بصدور روايته «ليلة الأفك» يمكن القول إن الشاعر منصف الوهايبي اختطفه عالم السرد في هذه المرحلة من تجربته الأدبية من غواية الشعر إلى غواية الرواية، ويبدو أنه وجد في هذا العالم الجديد مساحات هائلة للتحبير والتخيل، موظفا في ذلك سيرته الأدبية والاجتماعية والسياسية متخيرا ضروبا من قراءاته الواسعة وكتاباته وجلساته وملامح الفضاءات التي تردد عليها مفتوحة أو مغلقة، والوجوه التي مرت أمامه هنا وهناك، دافعا فيها بالكثير من مكونات سيرته الذاتية.. إنها الرواية الثالثة التي يطلقها الوهايبي في تجربته الأدبية، وهي محطة أخرى لا أعتقد أنها ستمر بلا جدل… فالنص مشاكس على مختلف المستويات، بل هو مشاغب ومستفز للنقاد والساسة والقراء العاديين.
نص يحلق خارج الشكل الكلاسيكي للرواية العربية، ويتوغل في مسار التجريب، حيث التقطيع والتمزيق والتشظي والتناص والميتانص والتعدد اللغوي والخطابي وحكاية متشعبة ومركبة تتخفى داخلها حكايات، أو لنقل حكاية حربائية- يتبدل لونها فجأة كالحرباء- فهي حينا حكاية سي مصطفى وبكرية، وحينا حكاية الوهايبي نفسه، وحينا حكاية الأهل والمدينة، وحينا هي حكاية البلاد، وحينا هي متخيلة، وحينا آخر تبدو ذات مرجع تاريخي دقيق ومعلوم، فالذات المتخيلة تجول بين فضاء الخيال والحلم من جهة وفضاء الذاكرة بما فيها من أحداث وصور من جهة أخرى.
أما زمنها فتحكمه لعبة أخرى تجعله متحركا وتجعل الراوي يطوف بين أزمنة مختلفة… هو مجرد يوم واحد، أي يوم هروب سي مصطفى وبكرية، وحينا هو عقود طويلة في تاريخ تونس الحديثة، وحينا آخر هو مجرد سنوات، وتحديدا سنوات تونس زمن الثورة و»الترويكا»… ولا شك أننا هنا في حاجة إلى تتبع مستويات مختلفة من أزمنة الكتابة وأزمنة الأحداث.
هي رواية موسومة بعنوان يحيل إلى التاريخ والسيرة النبوية وحادثة الأفك الشهيرة وما أثارته من جدل وما تعنيه من دلالات عميقة، ولكن متنها يشي لنا بأن التاريخ لم يكن غير قناع للواقع التونسي المعاصر، واستعادة حادثة الأفك في عتبة العنوان لم تكن غير خطاب لتشبيه بعض مفاصل وأحداث الرواية، ولم يكن غير إشارة ذكية لتوسيع الفضاء الدلالي للرواية والتعليق على الأحداث والإيحاء بمدلولات وعناصر تشابه بين حكاية الشخصيات المتخيلة من جهة والشخصيات المرجعية المذكورة في العمل.
لا شك أن الجانب الفني في هذه الرواية مثلما لاحت بعض مظاهره التي أوجزنا الإشارة إليها يستحق وقفات متعمقة فهو يحمل الكثير من الإثارة ويكشف عن لعبة سردية حداثية وينهل من التجريب الروائي ويمضي في عالم التجريب الروائي، وهي من سمات السرد في تجربة الوهايبي الروائية التي لاحت في روايتيه السابقتين، والحقيقة أن الخيوط الواصلة لا تنقطع بين سرد الوهايبي وشعره وكتاباته النقدية، فثمة تعالق وتداخل وتوظيف متجدد يتراءى في هذه الأعمال.
وإذا كانت ليلة الأفك مغامرة شكل تنفتح على عوالم قصية من التجريب اللغوي، فهي من ناحية المضمون مغامرة دهس للمحرم واختراق لعوالم المسكوت عنه وتردد على الثالوث المحرم في الذهنية العربية «الدين والجنس والسياسة». واللافت للنظر أن قلم الوهايبي تحول في هذه الرواية إلى سياط وكلماته تحولت إلى جلدات… هي رواية جلد بكل ما تعنيه اللفظة من عنف حاد وما نقصده منها من صفع وحدة يتردد صداه… ففي هذه الرواية يقف الجميع عراة لا شيء يستر عوراتهم وينهال عليهم قلم الوهايبي وربما ينهال على نفسه أحيانا.
في ليلة الأفك يجلد الوهايبي ساسة تونس وقادة أحزابها ونخبها وإعلامها وحكامها القدامى والجدد وثورييها وأزلامها… يجلد الأعداء والأصدقاء ويرسم المشهد السياسي التونسي بطريقة كاريكاتيرية… يجلد شخوص المشهد السياسي التونسي ذاكرا إياهم بأسمائهم وكناهم المعروفة والمتداولة، فيذكر راشد الغنوشي وعلي لعريض ومنصف المرزوقي وحمة الهمامي وغيرهم، ويعرج على أحداث كثيرة مثيرة للتعليق شهدتها تونس زمن الترويكا مثل، اغتيال شكري بلعيد وحادثة «الشيراتون» ومظاهرات المومسات، وغير ذلك من الأحداث التي أسهمت في تبديل وجهة الثورة التونسية… فالوهايبي يجلد في هذه الرواية الحاضر والماضي بسياط موجعة ويعيد قراءة الأحداث بسخرية شديدة موظفا تقنيات كثيرة مصورا قلقه وقلق التونسيين.
هكذا هي ليلة «الافك» رواية أتوقع أنها ستلقى الكثير من الردود حالما تنتشر في الأرجاء، فالوضع التونسي مازال سريع الانقضاض على الرأي الآخر…ولا اعتقد أنها ستسلم من أذى الردود المنفعلة والمدفوعة التي تربك المشهد وتأسرنا في جبة قديمة وبالية… والحق أنها رواية ثرية فكلما حركتها أثارت فيك هواجس الكتابة وكلما لامست فقرة منها استفزتك…
كاتب تونسي
رياض خليف
شكرا لصاحب المقال على هذه الإطلالة، وللقدس العربي التي لا تدخر جهدا في ربط المشرق بالمغرب. نعم رواية مثيرة للجدل.. تجريبيّة.. لكنها مشوقة