إلى موسكو مع الحب
‘جائعة أنت ولكنك معطاءة … محاصرة أنت ولكنك مقدامة’ … لا أتذكر أين قرأت هذين الشطرين من الشعر، ولا أستطيع الجزم باسم القائل، وإن كان الدفق الشعري في البيتين يومئ إلى شاعر روسيا ألكسندر بوشكين، حيث جزالة الألفاظ (كما هو دأبه) مجدولة بحركة درامية تبدو كأنها عادية مُعاشة، ولكنها فريدة نادرة، حيث أن وجود مفردة بجوار مفردة كاف لتفجير ينابيع الشعر وتشكيل سوية الفن. إنها تلك اللمحة البسيطة في إجرائها اللغوي، ولكن كيمياءها يصنع الفن ويفصح عن إطلالته ويولد معانيه.
ما أتذكره تماما وهو بيت القصيد في هذا المقال أن المعنيّ بالقول في البيتين هي مدينة موسكو. ‘جائعة أنت ولكنك معطاءة … محاصرة أنت ولكنك مقدامة … يا موسكو’.
في هذين البيتين نجد الجوع والحصار يجسدان حال المدينة. إنه حال مزر، ولا أكبر منه خزيا في الحياة ولا أكثر خسرانا. الموت يتربص بالبطون ويخيم على الحدود. ولا مفر منه. ولكن الحياة ترعى معانيها أحيانا بين القبور وفي مفازة الموت.
مدينة جائعة معطاءة، محاصرة مقدامة… هي موسكو. وهي موسكو التي عرفتها.
لا يتوقع منك الروسي إلا كل خير… كما لو أنك طائر أبيض نزل في حظيرته، حتى لو لم تكن أبيض! أما أنت فتوقع منه ما شئت. إنك وقد حط بك الرحال في العاصمة، عليك ألا تخشى شيئا: لا الجوع ولا الحصار. ستجد المأوى بلا أدنى شك وسترشدك الأرض إلى كل الأماكن النافعة . ربما ستجدك عائلة، تفتح لك أبواب بيتها وكأنها بانتظار ابنها الغائب، أو ملاكها المنتظر. ستشعر أنك في غابة كثيفة، غير منتظمة، وستجرب التوهان في موسكو، ولكنك في نهاية المطاف، سترضخ لمنطق الأشجار.
لن تكون وحيدا وأنت في موسكو. الروس يرفضون أن يكونوا بلا أحد. سيجتمعون بك في طاولاتهم. وفي الطاولة الروسية ستنظر بعينك إلى آيات التبرك، حيث: خير الأمور ما قل ودل.
كل شيء يشفع أن تكون شبعان في موسكو، عواطفك رطبة، قلبك سليم، ولكن ثمة كأس يمتد إليك في كل عتبة من عتبات أبواها. كأس تشبه الحارس الذي ينتظر في نهاية الممر لتحصيل الأتاوة.
ستخرج سليما من موسكو ولكن على شرط أن تُبقي رعاف الشوق إليها متقدة . موسكو خوافة لمن لا يشتاق إليها … ولا يعود. كما لو أنك تسرقها وتفضحها بين الأشهاد، فيما هي غير جاهزة لذلك.
وهي دائما ترتد إليك، تراقبك، تنتظرك، لا توجد مدينة في العالم متلهفة لأهلها مثل موسكو…. وربما القاهرة مثلها!
لا أحد يصّدق في موسكو (ومن بينهم معلمة اللغة الروسية) أنك لست فقيها في اللغة الروسية. في حصة اللغة الروسية بالمعهد، أنت مجرد طفل في روضة لتعلم النطق لا أكثر.
حينما تكبر في اللغة الروسية، تصنع لك موسكو خيولا خشبية لتتمرس عليها وتربي عرفك.
حين تتعرف حقا على موسكو ستمشي وحيدا في شوارعها. أفضل هدية من موسكو، وفيها، أن تتجول وحيدا في شوارعها. في آناء الليل وأطراف النهار. لا يهم بعدها إن كان جارك عابسا، أو سائق الباص حردا، أو بائعة الكشك غاضبة، أو المطر يلجأ إليك، أو الشتاء يشاكس أعطافك. لا يهم، فقد تعرفت لتوك على معنى العطاء والإقدام. أن تكون قدماك عالقتين في الجليد بينما رأسك ويداك تتلهفان إلى دفء البيت ورضوان أهل البيت.
a.alrahbi@ymail.com