ابن مسكويه 55 من 297

 

ابن مسكويه

ونتوهم حالا جسمانية ، أو صورا طبيعية مما ألفناه واعتدناه ، وكذلك تكون آمالنا اذا أردنا أن ننظر فيما بعد ذلك ، وهى كرة الفلك التاسع ، أعنى جرم الكل ، هل هناك خلأ أم ملأ ؟ فان النظر البرهانى يوجب أن ليس هناك خلأ ولا ملأ ، الا أن نتصور ذلك صعب علينا لما ذكرته . فنحن نعالج أنفسنا فى تحصيل ذلك فلا تكاد تذهن به مع ايجاب العقل اياه . وهذه حالنا فى تصور أشياء كثيرة ، تجرى هذا الجرى . وذلك كله لانطباعنا بالحس والفناء اياه منذ مبدأ كوننا .

فاذا ارتضنا بالرياضات وتعالجنا بما فتح عيون عقولنا ، وأدمنا النظر الى المعقولات حتى نألفها ، وانقطعنا عن الحس بقدر الامكان ظهر لنا شرف المعقولات ، وفضلها المحسوسات ، وظهر لنا ظهورا بيننا أن الحواس كلها ، وان كانت تدرك محسوساتها بلا زمان ولا تمويه فان تلك المحسوسات كلها متبدلة سيالة ، لا تلبث على حال واحدة ولا قدر يسيرا من الزمان لأنها ذوات هيولى تتفاضل بالاقل والاكثر ، والاشد والاضعف ، وتعتبر بأنواع الحركات .

فاذا ادرك الحس شيئا منها فظن أنه قد حصله لم يلبث أن يتبدل ويتغير عما كان عليه .

ومثال ذلك أن العين اذا أدركت شيئا من المبصرات فى حال من الزمان ، فانها فى الحال الثانية تصير غير الاولى بحركة الهيولى وسيلانه وتبدله وقبوله الحركة .

كالناظر الى صورة زيد ، فانه كان من الحال الأولى من نظره اليه على قدر من اعتدال التركيب ، وله قسط مزاج العناصر .

ولأن الحرارة التى تتحرك دائما وتعمل من رطوبته ، وتحلل منه بخارات ، ويعتاض البدن غيرها تارة من الهواء ومرة من الأغذية – فهو فى الحال الثانية على غير ذلك من الاعتدال ، وفى غير تلك الصورة من

m2pack.biz