اختراع الأدب
يعني التساؤل عن مفهوم الأدب أوّلًا مُواجهة ماهية مُلتبسة، وتمييزه من غيره من أشكال الإنتاج الفنيّ والرمزيّ، بما يفترضه من إيجاد معيارية مُنمِّطة له (جوناثان كيللر). ويطرح هذا السؤال الثاني مسألة اكتمال دائرة خاصّياته، لكنّ ما يبقى أكثر إشكالًا هو التسمية نفسها، دلالتها، تاريخ ظهورها، واستعمالها والحاجة إليها. وحين تُطرح التسمية يُطرح معها المفهوم الذي تتضمّنه، وإلى جانبه الموضوع الأنطولوجيّ الذي تُشير إليه؛ أي ما صدقها.
لا أحد يُنكر البتّة أنّ لفظة الأدب littérature اللاتينيّة ظهرت قبل القرن التاسع عشر. فقد كانت تُستعمل في إنكلترا إبّان القرن السابق عليه للدلالة على المعرفة، خاصّة ما يتّصل منها باللاتينيّة، كما استعملت للدلالة على أمور تتعلّق بالمُقارنة بين الكتابة كما هي واردة في الكتاب المُقدّس (الإنجيل) والكتابة غير الدينيّة التي كانت تُوصف بالوثنيّة (رينيه وليك: مفاهيم نقدية)، واستعملت أحيانًا للدلالة على كلّ ما له صفات الكتابة، ثمّ ضاق مجالها لتقتصر على ما يتّصف بالإبداع التامّ باللفظ. ومن ثمّة ترسَّخت عادةُ إطلاق اصطلاح الأدب على كلّ إنتاج تخييليّ من دون التنبّه- من جهة- إلى حصرية مفهومه التي لها صلة بظهوره بوصفه تسمية، ومن جهة ثانية إلى أنّ التخييل خاصّية كونيّة لازمت الإنسان منذ أن اكتشف أهمّية الرمز في إفادته في العيش على وجه الأرض.
وهناك من يجعل الأدب مفهومًا عامًّا يطال كلّ ما هو سابق على ظهور تسميته، كما هو الحال بالنسبة إلى روبير إسكاربي؛ حيث يربط بينه وبين اللفظة اليونانية «راماتيكي» التي تعني المعرفة بفنّ كتابة الحروف. غير أنّ الاصطلاح شديدُ الاتّصال بعصر النهضة، ولا صلة له باللفظ اليونانيّ، ولا يُمْكِن قبول افتراض وجود الأدب- من حيث هو مُمارسة- منذ القدم، وأنّ ما وقع هو مُجرَّد تحوّل في مفهومه فحسب. والحال أنّ ما دعا إلى نحت لفظة الأدب هو الحاجة إلى اصطلاح بإمكانه الإشارة إلى واقع جديد في الكتابة التخييليّة. ولعلّ في إشارة إسكاربي إلى أنّ الأدب ارتبط بظهور الرواية (آن موريل)، وتمييزه عن الفنون الجميلة ما يدلّ على كون الأدب مُمارسة كتابيّة جديدة لها ملامحها الخاصّة، وتنأى عمّا سبقها اصطلاحًا ومفهومًا. ويُواجِه جوناثان كيللر المأزقَ ذاته؛ حيث يُقرِّر أنّ ظهور الأعمال الأدبيّة يعود إلى ما يقرب خمسة وعشرين قرنًا، بينما يعود ظهور فكرة المُعاصرة في الأدب إلى ما قبل قرنيْن. ويُعيد ظهور هذه الفكرة إلى لسينغ (جوناثان كيللر). ونستنتج ممّا سبق أنّ هناك طرحيْن: طرح يحصر الأدب اصطلاحًا ومفهومًا في العصر الحديث، وطرح يُعيد ظهوره إلى العصر اليونانيّ مع الحرص على تحوّل مفهومه في العصر الحديث ابتداء من القرن الثامن عشر ليدلّ على تجربة تخييليّة مُعاصرة. ولا يسع المرء أمام هذين الطرحيْن سوى أن يقرّ بأنّ تحديد مفهوم الأدب إشكاليّ، لكنّ هذا لا يمنع من النظر إليه من زاوية أنّه مُمارسة جديدة في الكتابة تشير إلى تحوّل في بنية التخييل.
ويزداد الخلط عندنا في المنطقة العربيّة بين الأدب وما سبقه من كتابة جميلة لسببين: أّوّلهما يعود إلى ما صاحب النقد الغربيّ من التباس في هذا المجال، ومن تمييز الأدب العامّ من الأدب الخاصّ، وثانيهما إلى أنّ ترجمة اللفظة الأجنبيّة Littérature بلفظة الأدب غير مُوفَّقة؛ الشيء الذي جعل من المضامين التي صاحبت هذه الأخيرة عبر تاريخ استعمالها في التراث العربيّ تنزلق إلى توظيفها من دون النظر إلى اللفظة اللاتينيّة في ضوء الحاجة إليها في سياقها النقديّ. فالاصطلاح مأخوذ من الجذر اللاتينيّ Littera الذي يعني النصوص المكتوبة من أجل الحفظ، واسْتُعمل لأوّل مرّة من قِبَل مدام دو ستايل سنة 1800 (بيير ماشري)، وقد عنت به واقعًا جديدًا في الإنتاج التخييليّ.
يُعَدُّ اصطلاح الأدب- إذن- بالمفهوم الغربيّ الحديث دالًّا على تحوّل في الإنتاج التخييليّ مُتّصف بخاصّيات جماليّة مُميِّزة (فولتير: آن موريل) تُغاير جذريًّا مُواصفات التخييل السابق على عصر النهضة. وإذا كان بيير ماشيري يربط هذا التحوّل بأواخر القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر، فإنّ إرهاصاته الحديثة تعود إلى ما قبْل ذلك بكثير، إلى ما شهده القرن السادس عشر من تحوّل في الإنتاج التخييليّ، وبالضبط مع ظهور رواية «دون كيخوتة» لميغيل سرفانتس التي رسمت ملامح المُنعطف الذي ستستقرّ عنده مُمارسة الأدب في القرن التاسع عشر. ومن جملة هذه الملامح تدشين ميلاد فنٍّ سرديٍّ لم يكن معروفًا من قَبْل، بما يعنيه هذا من تمرّد على الأشكال التخييليّة السرديّة المُعمَّدة عبر التاريخ، ومن مُلامسة تخوم الأجناس الخطابيّة الشفهيّة (باختين)، ومن احتفاء بالدنيويّ بكلّ مظاهره المُتنوِّعة بوساطة تمثيل الحياة اليوميّة الجارية. لكنّ أهمّ ملمح هو ما يتّصل بتمثيل الذات من طريق تظهير بعدها المعرفيّ المُحايث لواقع غير مُكتمل، وغير قابل للقبض عليه من خلال المُتعاليات التي ميَّزت الثقافات القديمة. ويتجلّى هذا الملمح في إدخال مفهوم التجربة في تمثيل الذات السرديّة؛ بحيث صار اختبار قدراتها شيئا لا بدّ منه، بعدما كانت السرود القديمة لا ترى في هذا الاختبار ضرورة فنيّة لها. وقد تعرّض مفهوم البطل المُميِّز للسرد القديم- نتيجة لهذا التحوّل- إلى التفسّخ، وتهدّم كُلّه التكوينيّ الذي كان يتأسَّس وفق عناصره الأسس (الشجاعة- القوّة- الجمال- الذكاء). ونتج عن هذا التدمير أن فُسِح المجال أمام السرد لكي يُمثِّل الجانب العاديّ في الذات (الشخصية)، وإظهار كلّ العناصر المُحتملة التي يزخر بها تنوّع النمط الإنسانيّ، وهذا ما تُظهر تمثيلَه رواية «دون كيخوتة» عبر اللباس الغريب، والقوام النحيل، والمظهر المُثير للسخرية.
كيف نتعامل- إذن- مع الإنتاج التخييليّ الذي سبق الأدب إذا كان هذا الأخير نتاج العصر الحديث؟ تقتضي الإجابة طرح سؤال آخر يتعلّق بمعرفة ما إذا كانت الثقافات السابقة على عصر النهضة معنية بإطلاق تسمية جامعة تضمّ كلّ أصناف الإنتاج التخييليّ التي تعتمد على اللغة وسيلةً في بناء عوالمها، أم أنّها كانت تكتفي بالإشارة إلى كلّ صنف تخييليّ بالتسمية التي تُناسبه بوصفه فنًّا مُستقلًّا. ثم ما هي الحاجة الداعية إلى تسمية جامعة؟ هذا ما سنسعى إلى تبيينه في المقال المُقبل.
أديب وأكاديمي مغربي