الآراء المتحركة للجماهير 4من اصل4
وأما اليوم فأين هي الصحيفة الغنية بما فيه الكفاية والتي تسمح لمحرريها بأن يعبروا عن آراء شخصية؟ وما هي المصداقية التي تتمتع بها هذه الآراء لدى القراء الذين يبحثون فقط عن الاستعلام أو التسلية، والذين يرون خلف كل توصية وجه المضاربين التجاريين؟ وحتى النقد الأدبي لم يعد قادرًا على الدعاية لكتاب ما أو لقطعة مسرحية. ذلك أن باستطاعته الإساءة وليس الخدمة. فالصحف من شدة وعيها لعدم جدوى أي رأي شخصي راحت تحذف صفحات النقد الأدبي. وأصبحت تكتفي بتسجيل اسم الكتاب مرفقًا بسطر أو سطرين من الإعلان. وربما حصل نفس الشيء للنقد المسرحي خلال العشرين سنة القادمة.
لقد أصبحت مراقبة الرأي العام اليوم هي الشغل الشاغل للصحافة والحكومات. أصبحت مشغولة بمعرفة الأثر الذي يحدثه حدث ما أو برنامج تشريعي ما أو خطاب ما على الرأي العام. وهذا ليس بالأمر السهل، ذلك أنه ليس هناك من شيء أسرع تحركًا وتغيرًا من فكر الجماهير. فنحن نراها تستقبل باللعنات ما كانت قد صفقت له بالأمس.
وهذا الغياب الكامل لتوجيه الرأي العام ثم انحلال العقائد العامة في نفس الوقت أديا في نهاية المطاف إلى التفتيت الكامل لكل القناعات واليقينيات ثم إلى شيوع اللامبالاة المتزايدة لدى الجماهير والأفراد في آن معًا، وذلك في كل ما يخص مصالحها المباشرة. إن مسائل العقائد. كمسألة الاشتراكية مثلًا، لم تعد تجد مدافعين مقتنعين فعلًا إلا في الطبقات الأمية من الشعب. نضرب على ذلك مثلًا عمال مناجم الفحم. وأما البورجوازي الصغير والعامل المتأثر قليلًا بالثقافة والتعليم فقد أصبحا متشككين جدًا.
وهذا التطور الذي حصل خلال ثلاثين عامًا فقط مدهش إلى أبعد حد. ففي الفترة السابقة والقريبة العهد كانت الآراء (آراء الناس) لا تزال تحظى بتوجيه عام. فقد كانت مشتقة عن تبني بعض العقائد الإيمانية الأساسية. فبمجرد أن كان الإنسان ملكيًّا كان يحصره على مستوى التاريخ والعلوم ببعض الأفكار المسبقة، وإذا كان جمهوريًّا فإن ذلك يعني تقيده بأفكار مضادة تمامًا.