الألوان المائية في أعمال التشكيلي اليمنيّ مظهر نزار.. شفافية السطوح وجمال التكوين الواقعي
صنعاء «القدس العربي» من أحمد الأغبري: تُمثل تجربة التشكيلي مظهر نزار (1958) مع تقنية الألوان المائية علامة فارقة في علاقة التشكيل اليمنيّ بهذه التقنية التي أنجز فيها نزار على، مدى ثلاثين سنة، عددا كبيرا من الأعمال تموضعت غالبيتها في المكان؛ وهو الموضوع الذي اشتغل عليه عدد كبير من التشكيليين هناك؛ إلا أن اشتغال هذا الفنان عليه بهذه التقنية وبمستوى مختلف يجعل من خصوصيته هذه جديرة بالقراءة والضوء.
لا تُعد تقنية هذه الأعمال هي العنوان البارز للوحة وتجربة هذا الفنان، الذي يُصنّف من رموز الجيل الثاني في المحترف التشكيلي اليمنيّ؛ ويتميز بتنوع الأسلوبيات والتقنيات التي استقرت عليها تجربته مبكرا عقب تخرجه في الجامعة في كلكتا (الهند)، حيث درس الفن التشكيلي في ثمانينيات القرن الماضي، وظهر منذ التسعينيات فنانا تنوعت واستقرت تجربته بين تقنيات: الجرافيك، ألوان الأكريلك، والألوان المائية وغيرها، ومازال يقدم من خلالها، عددا كبيرا من الأعمال متميزا، بالإضافة إلى التنوع بالغزارة.
يعتد هذا الفنان بتجربته ويعتمد عليها في حياته، ويمنحها ما تستحق من الوقت والإمكانات، وهو ما يمكن ملاحظته خلال زيارة لمنزله في صنعاء؛ إذ خصص معظمه غاليري واقتطع جزءا منه مرسما ومحترفا مزودا بالخامات، وكل ما يحتاج إليه في إنتاج لوحته، التي عرضها في عددٍ من المعارض الشخصية داخل وخارج اليمن، وتم اقتناؤها من قِبل عددٍ من المؤسسات والمنظمات المحلية والدولية، وتعكس، في تقنيتها وموضوعها، مدى اتساع رؤية الفنان وجمال نصه البصري في علاقته بالتجريد والواقعي.
واقعية مختلفة
في موازاة تجريدية ألوان الأكريلك يرسم نزار بالألوان المائية على الورق مناظر واقعية بحرفية ومهارة عالية، أصبح من خلالها قادرا على إنجاز اللوحة في وقت قصير ساعدته في هذا مقدرته على اقتناص وبلورة المنظر وفق رؤية مشهدية جديدة يصوغ تكوينها وتلوينها اعتمادا على حساسيته العالية في الاشتغال على التلوين بما يتناسب مع التكوين في التعبير عن رؤيته الجديدة تجاه منظر يأتي مختلفا عما هو عليه في الواقع؛ إذ يتدخل معدلا في التفاصيل حذفا وإضافة، ضوءا وظلالا ولعل علاقته الممتدة بالألوان المائية وخبرته الطويلة في التعامل مع ميزانها وتوزيعها قد جعله متميزا في إنجاز لوحة واقعية مختلفة، ليس عن المنظر الحقيقي وحسب، وإنما عن التجارب الأخرى ممن اشتغل أصحابها على الموضوع ذاته والتقنية ذاتها. جذبت الألوان المائية نزار قبل ثلاثين سنة خلال دراسته للفن التشكيلي في الجامعة في الهند، حيث نشأ ودرس قبل أن يعود ويستقر في بلاده.
«خلال الدراسة أُعجبت كثيرا بمادة الألوان المائية، وأنجزت فيها أعمالا أُعجب فيها الكثير؛ فبدأت علاقتي بها تسير جنبا إلى جنب بجانب التقنيات الأخرى على امتداد علاقتي باللوحة التشكيلية» يقول مظهر نزار متحدثا إلى «القدس العربي».
مناظر المكان
عند عودته لليمن قبل عقدين ونيف تقريبا استهوى نزار في علاقته بالألوان المائية جمال المناظر في مدينة صنعاء القديمة؛ فبدأ في الاشتغال عليها بهذه الألوان، ومنها انتقل إلى إنجاز أعمال أخرى لمناظر من مُدن يمنية مختلفة.
«ما يميز الألوان المائية في إنجاز لوحات مكانية أن المناظر تظهر بواسطتها ساحرة جدا في حال استطاع الفنان تحديد رؤيته وفكرته الفنية مسبقا، ومن ثم اعتنى بضبط إيقاع الألوان بما يعبر عن رؤيته؛ فعندئذ تأتي اللوحة مدهشة، خاصة على صعيد الشفافية والتكوين؛ فالألوان المائية، هنا، تخدم الموضوع جيدا»، ويضيف نزار، إن اشتغاله، في كثير من لوحاته، على صنعاء القديمة يعود إلى ما وجده فيها منذ عودته إلى اليمن، حيث سحرته مناظرها، ليخلص إلى أن الألوان المائية تناسب كثيرا مناظر المكان في اليمن؛ لما تتميز به تفاصيل المكان – هنا – مقابل ما يتميز به اللون المائي في قدرته على استنطاق سحر وجمال المكان وفق رؤية جديدة.
الشفافية والتكوين
«تتميز تقنية الألوان المائية في منح الفنان قدرة على استنطاق الشفافية بمستويات تختلف وفق طبيعة المنظر وخصوصية الرؤية والفكرة، وعلاوة على ما تمنحه للفنان من قدرة على تجسيد هيكل التكوين بخصوصية لا توفرها التقنيات الأخرى؛ بمعنى إن الشفافية وتكوين الهيكل يظهران أفضل من خلال هذه التقنية»، ويوضح نزار أن أعماله الواقعية بهذه التقنية تتجاوز (فوتوغرافية المنظر)؛ وبالتالي فالمنظر في هذه الأعمال مختلفة تماما عما هي عليه في الواقع، «وهو ما يمكن ملاحظته في نسبة الشفافية وجمال التكوين علاوة على (الجو) المتمثل في ملامح السماء ومستويات الضوء والظلام بما يعكس (الوقت) كل ذلك وغيره يقدم منظرا مختلفا يعكس رؤيتي وفكرتي من خلال لغة لونية فارقة تقدم فكرة جديدة مؤثثة بتفاصيل وألوان تعكس جوا مختلفا؛ فالجو العام للمنظر في كل لوحاتي يكاد يكون مختلفا، ويمكن من خلاله قراءة الكثير».
اكتسب الفنان، خلال تجربته الطويلة مع هذه التقنية، مهارة في التعامل معها، متميزا في ضبط إيقاع ألوانها؛ وهي مهارة مهمة؛ لأن الاشتغال بهذه التقنية على الورق لا يحتمل الخطأ؛ «لأنه من الصعب تعديل الخطأ في اللوحة وفق هذه التقنية، بمعنى لا يمكن فيها التعديل كما يحصل في التعامل مع الألوان الزيتية؛ وبالتالي لا بد أن يكون الفنان، قبل أن يُمسك بفرشاته، على معرفة جيدة بفكرته ومهارة أفضل في التعامل مع ألوان منظره».
غزارة ونوعية
أنجز مظهر نزار، من خلال هذه التقنية، عددا من اللوحات التي تنقل فيها بين أماكن يمنيّة مختلفة، كانت صنعاء القديمة قد فازت بنصيب كبير من هذه الأعمال إلا أنه اشتغل على مناظر أخرى في مُدن ومناطق يمنية أخرى ارتبط فيها الفنان بعلاقة خاصة، مثل مناظر من منطقة حراز (غربي صنعاء) ومناظر في مدينة جبلة (وسط اليمن) وغيرها.
وتحضر تقنية التشكيل بالألوان المائية في المحترف اليمني لدى كل الأجيال، إلا أن ما يميز تجربة نزار هو اشتغاله عليها بتكريس على امتداد علاقته باللوحة منذ تخرجه في الجامعة، حيث لم ينقطع عنها، بل بقيت تسير بموازاة تقنياته الأخرى؛ ما يؤكد وضوح رؤية هذا الفنان في علاقته بلوحته؛ إذ يسير بثقة مع كل تقنياته.
«باختصار أنا أحب التشكيل بهذه التقنية كثيرا؛ لما تمنحني من قدرة على التعبير عن مدى حبي للمكان هنا» يقول مظهر نزار.