الإنتاج الثقافي
تتواتر هذه الأسابيع عمليات تنظيم المعارض الدولية للكتاب في مختلف البلاد العربية. وبعد انتهاء معرض القاهرة الذي يقام حاليا، سيأتي بعده معرض الدار البيضاء. وبمناسبة هذا المعرض تقدم جائزة المغرب للكتاب. وهي الفرصة الوحيدة التي تمكن المتتبع من التعرف على الإنتاجات الثقافية التي تم نشرها خلال سنة كاملة، في غياب دراسات اجتماعية دورية ترصد الإنتاج الثقافي، سواء على المستوى الوطني أو العربي.
وحتى هذه الفرصة لا تسمح بالتعرف على كل الإنتاجات المطبوعة، لأنها تقتصر فقط على الأعمال المترشحة للجائزة. وتبعا لذلك، فهي لا تعطينا إمكانية التعرف بصورة دقيقة على كل الإصدارات التي ظهرت خلال سنة كاملة، عكس ما كانت عليه الأمور قبل ذلك حين كانت كل الإنتاجات المطبوعة ترشح بكيفية تلقائية.
أعلنت اللجنة العامة لجائزة المغرب للكتاب التي تنظمها وزارة الثقافة لسنة (2014) أن مجموع الأعمال المترشحة للجائزة بلغ 213 عملا موزعة على النحو التالي: السرديات (المقصود النصوص السردية) 67 عملًا، والدراسات الأدبية والفنية واللغوية 42 عملًا، والعلوم الإنسانية 36 عملاً. أما الدواوين الشعرية فقد بلغت 31 عملاً، وعدد الدراسات في العلوم الاجتماعية 23 عملًا، والترجمة 14 عملًا.
حين نتأمل هذه الأرقام، رغم كونها لا تغطي كل الإنتاجات الإبداعية والفكرية المغربية، فإنها تعطينا فكرة واضحة عما ينتجه المغاربة على مستوى الكتاب، الذي لا يتعدى في أحسن الأحوال 300 كتاب في السنة، في بلد تتعدى ساكنته الثلاثين مليون نسمة؟
لا يتطابق هذا الإنتاج مع هذا المجتمع. وإذا كان إنتاج الكتاب واستهلاكه دليلا على المستوى الثقافي للمجتمعات، فإن هذه الأرقام تبرز لنا بجلاء الواقع الثقافي المغربي. وعندما نتساءل عن عدد النسخ المطبوعة من أي كتاب، وعدد المبيعات، في السنة الواحدة، تتأكد أمام صورة المغرب الثقافي التي لا تختلف كثيرا عن باقي الدول العربية. كانت الإبداعات الأدبية (سردا وشعرا)، إلى فترة قريبة، تحتل مكانة مهمة بالقياس إلى الأعمال الفكرية (دراسات أدبية وإنسانيات). لكن منذ السنوات الأخيرة، بات هناك نوع من التوازن بينهما، فالإبداعات لسنة (2014)، تنحصر في حوالي 98 كتابا، بينما نجد الدراسات تصل إلى 101 كتاب. لكن الترجمة لا تتجاوز 14 كتابا.
لا تقدم لنا هذه المعطيات صورة دقيقة عن المغرب الثقافي، فالقارئ المغربي موجود، وهو يتعامل مع الكتاب العربي والمطبوعات العربية والأجنبية إجمالا. كما أن الكتاب المغربي، إبداعا ودراسة وترجمة، مطلوب على المستوى العربي. ويؤكد هذا طبيعة المجتمع المغربي وعمقه العربي. لذلك فحديثنا عن القارئ المغربي، والمقروئية المغربية، لا يمكننا ربطهما فقط بالإنتاج المغربي، ويؤكد هذا من جهة أخرى أن الكاتب المغربي عربي، شأنه في ذلك شأن القارئ المغربي. وهذه ميزة لا نجدها بالنسبة للعديد من المجتمعات التي نقارنها أحيانا ببعض المجتمعات العربية.
إن الإنتاج المصري والكويتي والسوري والفلسطيني، إنتاجات مغربية بامتياز، وحين يقدم عليها القارئ المغربي فلأنه يجد فيها هويته الثقافية وهمومه الاجتماعية وتطلعاته المستقبلية. ويمكن قول الشيء نفسه عن القارئ العربي، في أي قطر عربي، عندما يتفاعل مع الإنتاج المغربي. وأقول في هذا السياق إن الكاتب المغربي، في أي مجال، معروف في المشرق العربي أكثر مما هو معروف في المغرب، وتتداول أعماله هناك، أكثر مما هي متداولة هنا.
عمق الصلات الثقافية العربية لا تحدها سياسات الدول والحكومات المتعاقبة، فواسيني الأعرج، على سبيل المثال فقط، يقرؤه المغاربة ويكتبون عنه أكثر، ربما، مما يفعلون معه في الجزائر. ويمكن قول الشيء نفسه عن حضور الكاتب المغربي في الجزائر. لقد دعيت هذه السنة إلى معرض الجزائر، واعتذرت لأسباب طارئة، وتصلني أخبار، عن حضور أعمالي، وغيري من الكتاب المغاربة، في الجزائر، بصورة أكبر مما هي عليه في المغرب. ويمكن تعداد الأمثلة في مختلف المجالات وأنواع الكتابات والإنتاجات، ليس فقط بين المغرب والجزائر، بل بين مختلف الأقطار العربية. إن أي كاتب عربي، أو فنان، أو مفكر، له حضور في أي قطر عربي، بهذا الشكل أو ذاك، وعندما يحضر أي كاتب عربي إلى أي تظاهرة ثقافية في أي قطر عربي يجد نفسه يتحدث «اللغة» نفسها، ويتناول «الواقع» الثقافي عينه، سواء قدم في تحليلاته نصوصا إبداعية أو فكرية، من القطر الذي ينتمي إليه، أو أي قطر عربي آخر، بلا عقدة، أو مركب نقص. ويجد الجمهور الذي يتدخل، يتحدث عن الإنتاجات الثقافية العربية ذاتها بلا فرق.
إن الإنتاج الثقافي العربي واحد، وإن تعددت الأقطار والبلدان وتباينت السياسات والتوجهات. حين حضرت العام الماضي مهرجان كَلاويز بالسليمانية وجدتني أتحدث عن «ممو زين»، تماما كما أتحدث عن أي نص سردي عربي. هذه الخاصية التي يتميز بها الوطن العربي، لا نلتفت إليها للأسف الشديد، بهدف تثمينها ودعمها والتفكير في مأسستها بصورة تسهم في تطويرها وإعطائها أبعادا أخرى أكثر إنتاجية ونجاعة.
لقد انتهى الحديث عن «القومية» كسياسة، لكن «العربية»، ثقافةً، وإنتاجا ثقافيا لا يمكنها إلا أن تستمر وتتواصل.
ناقد مغربي
سعيد يقطين
لقد انتهى الحديث عن «القومية» كسياسة، لكن «العربية»، ثقافةً، وإنتاجا ثقافيا لا يمكنها إلا أن تستمر وتتواصل