البؤس الثقاقي المُتْرَف.. أُوقِفوا المهزلة
لقد توغَّلْنا في متاهةِ ثقافةٍ مشهدية مبتذلة حتى لم نعد نعرف مَنْ نحن، ولا عن أي شيء نبحث، ولا كيف سنخرج من هذه الظاهرة المفجعة التي أحكمت طوقها الرهيب حول عقولنا. رأيت ذلك بعينيّ، وسمعته بأُذنيّ، وعشته بكل كياني في أحد المؤتمرات الثقافية «الخليجية». يومها، أحسست بأن عليّ، حسب منطق السلوك الإنساني المستنير، وكمواطن عربي، أو حتى كمواطن كوني لا يرتبط بحدود معينة غير حدود اللغة التي يكتب بها، أن أتكلم، وأن أتكلم بصراحة متناهية.
خلال هذه «اللُّقْيا اللاثقافية» أدركت أننا نعيش ظاهرة خطيرة بحق، لا مِثال لها في تاريخ المعرفة المعاصر: ظاهرة تسلّط دول الخليج على النشاط الثقافي العربي المعمم. تسلّط يُبْرز، عمداً، صورة برّاقة وجاذِبة «لثقافة» مهلهَلَة، مُحْتفى بها بشكل مثير وهي لا شيء تقريباً. ثقافة تلفيقية لا أثَرَ فَعّالاً لها. خالية من أي بُعد معرفي يضع الفكر السائد موضع شكّ. ولا تكرّس إلا الرتابة والاستيعاب. استيعاب الكُتّاب العرب الباحثين عن «موطئ قَلَم»، من أي قطر أتوا، طالما أنهم يقبلون «بالشروط المحلية» المحافِظة التي تفرضها هيئات هذه الدول بصرامة، ولا يحق لأي «ضيف»من هؤلاء الكتاب أن ينتهكها. وكما نعلم فإن «مفهوم الضيف» لا مكان له في عملية الأبداع. فالمبدع الأصيل هو «ضيف الكون»، وليس ضيف سلطة محددة أياً كانت.
هذه النشاطات الثقافية المزعومة ذات المحتوى الضحل الذي لا يتجاوز حدود الإبداع الدنيا، إنْ لم يكن أسوأ من ذلك بكثير، تبدو، حتى للملاحِظ غير الخبير، خارج سياق التاريخ، ومتخلفة كثيراً عن روح العصر والإبداع، مهما بلغت درجة تزويقها وتسْويقها، ومن أي وجه نظرنا إليها. وهذا الخلل الثقافي الذي بدأ يستقر عميقاً في بنية الحياة العربية هو المعني بهذه الكلمات الجارحة، الذي يستحق في الحقيقة ما هو أشدّ منها. وهو ما يدفعني إلى القول: إن التسلّط الثقافيّ أدْهى من التسلّط السياسي، وأخطر منه بكثير.
بتأثير هذه الظاهرة المستجدّة، حُكِم علينا ألاَّ نرى سوى صورة برّاقة وسرابية لنشاط الكائن العربي المَلْجوم من قبل سلطة بلاده والمَخْدوم من طرف أصحاب هذه الظاهرة. وهي صورة مخادعة إلى أبعد الحدود. لا تحتفي بمشاكل الوجود العربي بصدق، وإنما «تُفَرِّغها من جوهرها»، قبل أن يقدمها «الضيف الثقافي» بإنشاء فارغ منتشياً ببلاغته البليدة وانصياعه. والعالم، كله، يفضِّل صُوَرالحياة الأصيلة ولو مفعمة بالمشقة، على الصور المزيفة ولو كانت ناعمة ومريحة، على العكس مما يعتقده منظمو مهرجانات الخليج المحترفون، و«نقّارو الصحون» من المثقفين، وحُواة «الألاعيب الأدبية»، وبالخصوص من «الأكاديميين» التي لا تتعدّي درجة أكاديميتهم مستوى «الصف الأول ابتدائي» في النقد وفي الأدب. ونحن نعرف أن مواجهة المحيط بدون تنازلات، باعتبار المبدع ضمير البشر الكوني، هي التي تغني الإبداع وتعطيه قيمته الانسانية المطلقة. وهي التي يمكن أن تغير مصائر الكائنات، لا الرضوخ للمغريات العابرة، ولا تكريس المألوف.
وفي النهاية، بالنقود يمكن أن نبني أبراجاً، أعلى من الأبراج الأخرى، ولكننا لا نستطيع أن نصنع موهبة معمارية مثل موهبة حسن فتحي، أو جان نوفيل. يمكن أن ننشئ أجمل دار سينما في العالم بالنقود أيضاً، ولكننا لا نستطيع أن نبدع فيليني، أو يوسف شاهين، أو فيسكونتي. وبالنقود نفسها يمكن أن نترجم كل المنتوجات الثقافية العربية إلى كل لغات الكون، ولكننا لن نتمكن من خَلْق دستويفسكي، ولا نجيب محفوظ، ولا المتنبي، ولا عروة بن الورد، ولا هيغل و..و.. يمكن أن نستمر في هذه المجادلة إلى ما لا نهاية.
ولكن لماذا كل هذا الخلاف؟ لأن الإبداع لغة. واللغة حضارة (وحيث كنت لم أسمع لغة محلية، ولم أرها، ولم أقرأها). والحضارة تراكم معرفي معقَّد، في مجتمعات متعددة الأهواء، كثيرة المفاهيم، ومتضادّة الرغبات، وليس إرادة جماعة متجانسة وكأن أفرادها أخوة في الشكل والملبس والمأكل، وبالتالي في العواطف والعقول. المصالح الحيوية المتناقضة هي التي تحفِّز الكائن وتدفعه إلى الإبداع اللامألوف (وكل مألوف متْلوف). وهي التي تدفع البشر نحو التغيّر والتحرر والخروج عن«الصراط اللامستقيم». فليس ثمة إبداع بدون هدف استراتيجي فردياً كان أم جَماعياً. لماذا، إذن، نبذّر كل هذه الإمكانيات على أنشطة هباء؟ ولماذا يقبل مثقفونا ولائم الاستيعاب بهذا الشكل المفجع؟ وكيف تشرحون لنا هذا الجشع الثقافي اللامبرر، واللامفهوم، جشع الكَتبَة والمتملِّقين، الذي لا يعادله إلاّ جشع الذين يمسكون بخيوط هذه الظاهرة المخيفة؟
إني أسأل.
روائي سوري