الباحث مُحَمَّد العَرَشي.. تحقيق المخطوطات يحتاج لنُقاد متخصصين
صنعاء «القدس العربي» من أحمد الأغبري: يُعدّ الكاتب والباحث اليمني مُحَمّد بن مُحَمّد العَرَشي (1947) من أبرز المُشتغلين في مجال التُراث تحقيقاً وبحثا. فقد اشتهر في تحقيق عددٍ من نوادر المخطوطات، فضلاً عن تجربته في البحث والكتابة في التراث المكاني لبلاده؛ وله في هذا مشروع متمثل في موسوعة ثقافية مكانية في أكثر من عشرين كتاباً.
هنا حوار معه
تحقيق المخطوطات مهمة صعبة هدفها بسط حقيقة المخطوط من خلال اعتماد منهجية والتزام معايير، كيف امتلكت ذاتياً معارف ومهارات هذا المجال؟
اعتمدتُ على تجربة ذاتية من خلال معرفة وثقافة وخبرة عملية اكتسبتها خلال دراستي لكثير من المخطوطات التي حُققتْ. كنتُ أقرأ وأتمعن في المعايير والمنهجيات واستنتجُ منها، وهو ما مكنني من المعرفة والمهارة، التي بدورها سلحتني، خلال سنوات، بمعرفة ومهارة أخذتْ تتطور من تجربة إلى أخرى مستفيداً من قدرات وتجارب مختلفة.
تحقيق كتاب «الإعلان» كان امتحاناً عسيراً صقل تجربتي ومثّل تحدٍيا كبيرا، حيث توليتُ تحقيقه ومعي اثنان من الباحثين هما علي صالح الجمرة وعبد الخالق المغربي، وبدأنا نشتغل على المخطوطة التي تمثلُ تحفة في غاية الأهمية؛ لأنها كتاباً عظيماً تناول فيه المؤلف عشرة علوم.
كتاب بهذا المستوى يحتاج إلى جهد شاق؛ لأن محتواه منسوج نسجا. وقد واجهتنا مشاكل كثيرة منها مشكلة الحصول على نُسخ أخرى للمخطوطة. تجاوزنا الكثير من العقبات واستطعنا بعد خمس سنوات إنجاز التحقيق مُقدّمين، من خلاله أيضاً، اليمن في سياق استعراض لأبرز عباقرة وعلماء هذا البلد خلال 14 قرناً وإنجاز ترجمة وافية للمؤلف الذي كان قبل تحقيق هذه المخطوطة مغموراً، وهي التجربة التي توالتْ في تحقيق العديد من نوادر المخطوطات بما فيها كتاب «برهان البرهان» وكتاب «بلوغ المرام» وغيرها.
كيف تنظر لمشكلة الطباعة والنشر بعد التحقيق لكُتب حجمها كبير ولا تهتم بها دور النشر؟
في معظم الكتب التي حققتها كانت مشكلة الطباعة عسيرة، دور النشر لا تشجع كُتب التراث ولا تبدي اهتماماً بها، خاصة عندما تكون من الحجم الكبير. لهذا فقد واجهتُ، أيضاً، مشكلة في توزيعها باستثناء الكتب التي طبعتها وزارة الثقافة والهيئة اليمنية للكتاب.
ماذا نحتاج عربياً للوصول إلى مستوى نوعي في مجال المخطوطات، الذي يعاني كثيراً من الإشكاليات؟
نحتاجُ إلى بيئة علمية ووعي لدى المجتمع، خاصة من يمتلكون مكتبات شخصية للمخطوطات. نحتاجُ إلى مُحققٍ محترف مؤمنٍ برسالته في خدمة العلم والمعرفة، مُصرّ على تجاوز المعوقات وعدم الاستسلام للمشاكل.
كما يحتاج تحقيق المخطوطات إلى نقد ونُقاد متخصصين فاحصين. من خلال تحقيق المخطوطات استطاع الأوروبيون والمستشرقون اكتشاف حضارة وثقافة وهوية الآخر، ومن خلالها يُعيد المجتمع اكتشاف ثقافته وهويته ومعرفة مدى إسهامه في الحضارة الإنسانية والنهضة العلمية؛ لأن تحقيق المخطوطات يُحدث حراكاً علمياً كبيراً تتجلى فيه المراحل المضيئة للإنسان في الماضي بما ينير درب سيرنا في الحاضر نحو المستقبل. ما يُعيب واقعنا اليوم، خاصة في اليمن، أن كثيراً من مراكز المخطوطات، بما فيها التابعة لوزارة الثقافة، تهتمُ بجمع وصيانة وتوثيق المخطوطات، وهذا جميل، لكن الأجمل هو تحقيقها وإتاحتها للدارسين والمهتمين من خلال برامج ومشاريع مؤسسية تضمن استمرار التحقيق وفق رؤية واعية.
ثمة تحقيقات متعددة لمخطوط واحد، ما جدوى تحقيق ما سبق تحقيقه؟
نعم هناك تحقيقات تتكرر، لكن كل تحقيق له أسلوبه ونسيجه، وأحياناً قد تكون العبقرية في الأسلوب. واعتقد أنه، في الغالب، لا يخلو كل تحقيق من اختلاف وإضافة.
بجانب جهدك في تحقيق كُتب التراث نراك لم تتوقف عن الكتابة الصحافية في تراث المدن الثانوية في اليمن. ما خلفية هذا المشروع وإلى أين تمضي؟
لاحظتُ أن الناس انشغلوا بالسياسة وشغلتهم الهموم اليومية عن الالتفات لتراثهم وثرواتهم الثقافية، لدرجة أنهم لم يعودوا يهتمون أو يدركون حقيقة ما بين ظهرانيهم من تراث وثروات ثقافية؛ فتركوه عُرضة للخراب والإهمال، بما في ذلك وسائل الإعلام التي لم تعد تهتم بهذا الجانب؛ ونتيجة لذلك تبلور لديّ مشروع في البحث والكتابة في هذه الثروة، خاصة ثروة المكان الثقافية مُركّزاً على المدن الثانوية باعتبارها مُغيّبة ومهملة وبعيدة عن الأضواء؛ فبدأتُ أكتبُ عن هذه الثروات وأنشر كتاباتي في الصحف منذ عام 2004، وهو ما لقي اهتماماً من قبل كُتاب كبار منهم الشاعر عبدالعزيز المقالح، فشجعوني على جمعها وإعادة نشرها في كُتب، وهو ما تبلور لاحقاً في موسوعة ثقافية سياحية لليمن أنجزتُ منها حتى الآن أكثر من عشرة أجزاء، وخصصتُ لكل محافظة في اليمن كتابا ضمن الموسوعة.
لكن كيف تكتبَ عن مُدن كثيرة وأنتَ لم تزرها؟
انا زرتُ كثيراً منها بحكم عملي وكيلاً لوزارة المواصلات لمدة 19 سنة، كما اعتمدُ على كثير من المراجع والمصادر بمن فيهم أبناء المدن أنفسهم.
ثمة انتقادات كثيرة توجه لكُتب التراث لدرجة يذهب بعض المنتقدين إلى المطالبة بتنقيتها مما يرونه شوائب تقف وراء كثير من الإشكالات الراهنة؟
هذه الدعوة ليست منطقية، التراث ابن بيئته ويأتي نتاج ثقافة وعقلية وبيئة المؤلف، وبالتالي لا نستطيع أن نُحّمل كُتب التراث أي مسؤولية. وإذا أردنا أن ننتقد أي كتاب في التراث فننتقده بكتابٍ آخر.