التراث الثقافي المغربي في أعمال الحروفي رشيد إغلي
تتبدى سحرية الخط العربي لدى الفنان الحروفي رشيد إغلي في أسلوب معاصر جديد من حيث عمليات التثبيت المحكم والمعقلن والمنظم داخل الفضاء، باحترام منطقي لبعض قواعده وأصوله، وهو ما يحيل إلى أن قلم الفنان رشيد ملتزم بالضوابط المعرفية والعلمية والفنية للخط العربي، وملتزم في الآن نفسه بالتوظيف الجمالي للألوان واكتساح المساحات بطرائق ممنهجة. كما أن الشحنات التراثية والتسطيرات والخطوط والأشكال وعمليات التنظيم الفارقي، هي عناصر تدعم القاعدة الفنية للخط العربي أكثر مما تصب في مجال الفن التشكيلي، وهو ما يصنف الفنان رشيد إغلي ضمن الحروفيين المعاصرين.
ويتبدى أن هذا المنحى يأتي في سياق التجربة الفنية الحروفية لرشيد، التي تروم الحروفيات المعاصرة باستعمالات خطية ذات بعد فني، وهي تجربة تضطلع بتقاطعات وتمزج في الآن نفسه بين مفارقتي التداعيات الوجدانية بسحرها الجمالي المرصع بنشوة التراث الثقافي المغربيالأصيل بمنمنماته القديمة، وبين خزان من الأشكال والألوان المعاصرة المدججة بالتقنيات الحديثة. وبذلك فإن حِرفية الفنان الحروفي رشيد إغلي تتقاطع مع رؤاه الفنية لتمنح القارئ تحويلا جماليا في المادة الخطية، يتمثل الكل الخطي الفني بنوع من التداخل، ويجمع المفردات الخطية ويبدد بها الغموض الفني ويختزل بعضا من المساحات، وينجز بعضا من التداخلات الحروفية والصباغية بنوع من التبسيط بانتقاء وتسويغ تحكمه التجربة والخبرة، فيتراءى الدال الخطي في أسمال الترائي والظهور العلني، وهو بعض من الاحتفاء بالخط العربي في بعده البصري، الذي يستجلي غالبا دلالات إضافية. وهذا يحيل الى أن الفنان الحروفي رشيد يبني فضاءه على ميزان فني معرفي مركّب، يغلِّب المجال البصري على المجال الحسي، بمقصدية تروم ملء الطاقة التعبيرية، وإبراز الملامح الجمالية للحرف العربي داخل جمال اللون.
إن استهداف رشيد للفراغات التي تتزاحم فيها الخطوط المنحنية البائنة والأشكال المتنوعة والألوان المنسجمة والمتدرجة، وإحداث تفاعل بين مختلف العناصر الفنية يشكل تصميما مفتوحا على بلاغة ودلالات تمنح أعمال رشيد جماليات قيمية وروحية، بمقاربات تأويلية. إن أعماله تنبني على تطويع اللاشكل في الشكل سعيا إلى إنجاز عمل منظم ومدقق يراعي الضوابط الحروفية الجديدة، ويكشف حجب المضامين الروحية والمعرفية والعلمية والاجتماعية والفنية التي يشتغل عليها، مع التقليل من التمثلات الفنية والحشو اللوني، فيتجاوز المحدودية ويروم الارتقاء ويتجاوب مع المطلق ليحاكي العالمية. إن بعض الكتل الفنية الخفيفة في أعماله تطاوع التأويل بشكل مطلق، لأنها تصب في مضامين مباشرة، تبتعد شيئا فشيئا عن التجريد في جوهره. بخطوط متداخلة وألوان متدرجة تفصح عن تجربة عالمة في التدبير الحروفي والتوظيف الشكلي، وتحقق توليفا بين وحدة الشكل والبناء والتصور والأسلوب.
إن خبرة الفنان رشيد إغلي تعبر به لب التراث الحضاري العربي الإسلامي، حيث تتبدى تجربته الرائدة غنية في مجال الحروفيات وفن الخط العربي بالمعارف والعوالم، ومثقلة بنسيج ثقافي وفني وبإيقاعات حروفية ذات قيمة عالية. كما أن امتزاج الحروف بأساليب فنية معاصرة يشكل مرتكزا قويا مبنيا على علامات ورموز مقابلة لبعضها، وهي ثنائية تبدأ من عملية البناء الفضائي وتفضي إلى مسلك إبداعي فريد، وهي رغبته في سلك سبيل المثل والقيم التي يبديها المنحى الدلالي. وكلها عوامل تؤشر على أن المبدع يبني حرية الحرف بأساليب معرفية دقيقة داخل الفضاء وينشئ حوارا متوالفا بين الحروف والألوان والأشكال، وينسج حيزا كبيرا من التناسق بين الأشكال والخطوط وبين المادة الفنية المعاصرة.
إن تجربته ومراسه من منظور نقدي يقودانه إلى عوالم تطرح أعماله في نطاق الارتقاء بالرؤى الحروفية والفنية إلى مراتب عالية، فهو يشيئ الأشكال والعلامات والحروفيات داخل الفضاء اللوني وفق وهج فني متعدد الدلالات، وهو إنجاز يمتح من التعبير بالحروفيات الفنية أجمل التعابير وأبدع الأساليب، وينم عن تجربة عالمة وخبرة قائمة من حيث عمليات التوظيف الحروفي والفني والرمزي والعلاماتي، وأيضا من حيث تدبير المجال الجمالي، في ما يخص تناسق الألوان وشكلية مزج الحروفيات والدوائر والمربعات والمستطيلات وفق رموز وعلامات أيقونية تروم التجاور والتمازج والتماسك. إنه مسلك تعبيري يتخطى الجاهز ويروم أسلوبا يتفاعل مع أنساق جمالية ومعرفية وعلمية بتوظيفات خاصة، وبوجدانية تدعم القوة التعبيرية المعاصرة.
ناقد مغربي