لا تختلف الموجة الحالية من التغيير التكنولوجي المدفوع بالذكاء الاصطناعي عن سابقاتها سوى في حاجتها إلى قدرٍ أكبر من التكيف السريع، ويُعّد تطوير التعليم ليصير عملية متواصلة لا ترتبط بالمراحل الدراسية خطوةً ضرورية لضمان استفادة الإنسانية من الثورة الصناعية الجديدة وتخطي المخاوف الحالية من المستقبل، كما تناول مقال لفيشال سيكا، الرئيس التنفيذي لشركة “إنفوسيس” الهندية لخدمات الاستشارات وتكنولوجيا المعلومات.
ويرى سيكا أن تأثيرات الذكاء الاصطناعي والتشغيل الآلي واسعة التأثير وستستمر، كما أنها لا تزال في مراحلها الأولى، وستكرر هذه التطورات مجددًا. ويعتبرها الكثير من قادة الشركات أساسًا للمستقبل وأمرًا لا يمكن تجنبه في مجال الأعمال، وستُسهِم في تغيير اقتصادي إيجابي وواسع النطاق.
ولا يكفي مجرد تحمل تداعيات الذكاء الاصطناعي للنجاح، بل ينبغي الإسهام في تشكيل المستقبل الجماعي وتغيير العالم بطريقة مجدية وهادفة تُمكّن الجميع وتُتيح لهم فرصًا جديدة. وليست هذه هي المرة الأولى التي تغير فيها التكنولوجيا سوق العمل؛ فمثلًا في بداية القرن العشرين عمل 38% من الأمريكيين في المزارع، وأدى التوسع في استعمال المعدات الآلية إلى زيادة الإنتاج وتقليل الاعتماد على البشر، وحاليًا تُشكل العمالة الزراعية أقل من 1% من القوى العاملة الأمريكية، وفي الوقت نفسه ارتفعت معدلات التوظيف عمومًا لكن في مجالات جديدة لم يفكر فيها كثيرون في مطلع القرن.
وبالمثل سيُؤثر الذكاء الاصطناعي على الوظائف وكيفية أدائها والأنشطة البشرية في العمل وأوقات الفراغ، وسيمد البشر بفرص لتكوين خبرات وابتكار وظائف لا تتضح مختلف أبعادها اليوم وستُحقق قيمة مادية مرتفعة. وربما ستتمكن الأنظمة الذكية في نهاية المطاف من التفوق على البشر في أداء المهام المعرفية ذات الخطوات المحددة مثل حل المشكلات، لكن ستستمر الحاجة إلى الإبداع البشري والابتكار لتحديد المشكالت التي تتطلب تدخل التكنولوجيا أصلًا.
وبمقدور الذكاء الاصطناعي مساعدتنا على تجاوز قيود العقول والحواس. وكما قال البروفيسور ميسي كومينجز من “جامعة ديوك” الأمريكية نخوض الآن المراحل الأولى من اكتشاف كيفية عمل البشر مع الأنظمة الذكية بسلاسة أكبر، وهو أمر سيسمح بتحقيق معنى ووجهات نظر مشتركة، دون أن يعني بالضرورة الاختيار بين البشر والآلات، وإنما التعاون فيما بينهم كما حدث على مدار أجيال متتالية، وحينها فقط تتحقق الاكتشافات الفارقة.
وتكررت قصة التغيرات الجذرية وتكيف البشر معها خلال آلاف السنوات، لكن الوتيرة السريعة للتغيير الراهن تتطلب قدرةً أكبر على التكيف، كما تستدعي إعادة النظر إلى التعليم وصياغته باعتباره عملية مستمرة مدى الحياة لا تتوقف بانتهاء الدراسة الجامعية أو بعدها، ويشمل ذلك التوقف عن مكافآة الحفظ مُقابل مساندة التطلع إلى المعرفة والتجريب، وهي لبنات أساسية للاكتشاف وفهم المجهول.
كما ينبغي تحديث المناهج الدراسية من أجل تشجيع اكتشاف المشكلات وحلها بطرق إبداعية، والتعلم من خلال التجارب العملية، وتدريس علوم الحاسب للجميع كأساس للمعرفة الرقمية. ويتعين على المؤسسات توفير الموارد اللازمة للتعلم المستمر لموظفيها من أجل تطوير مهاراتهم، وتخصيص نسبة من عائداتها السنوية لتزويد العاملين بالمهارات الجديدة.
وعلى مدار التاريخ نجح البشر في التكيف لأسبابٍ منها تطوير أنظمة التعليم بالتزامن مع التقنيات الناشئة وتحديث قدراتهم لفهم الأدوات الجديدة. وتدفع التغيرات المتلاحقة اليوم نحو تفكير الدول والشركات في منظور جديد للتعليم. وضرب سيكا مثالًا بشركته “إنفوسيس” التي تبحث في تحسين نظامها لتدريب الموظفين بإضافة دورات دراسية قصيرة تُساعدهم على الاكتساب السريع للمهارات ومنها الذكاء الاصطناعي، كما تُساعد الموظفين في تقييم طريقة تعاملهم مع التحديات وتحديد المشكلات لتعزيز قدراتهم على الابتكار.
وهذه جميعًا خطوات صغيرة للبداية، وتحتاج الحكومات والقطاع الخاص إلى تطوير أساليب جديدة للتعلم مدى الحياة تُوفر فرصًا متكافئة لجميع الأشخاص في كل مكان، وعندها سيكون الخيال هو الحاجز الوحيد أمام القدرات البشرية، وسيكون للذكاء الاصطناعي دور في جعل البشر أكثر إنسانية.