الثقافة العربية وصناعة العقل الشجاع
ليس بالضرورة أنْ يكون الشجنُ الثقافي العربي جلْداً للذات، ولا حتى محاولةً في تكريسِ فكرةِ القربان الثقافي، لأن ما يجري في المشهد الثقافي يستدعي الكثير من المراجعة والمواجهة، مثلما يثير حوله الكثير من الأسئلة، لأننا على يقين بأنَّ جوهر المشكلة يكمن في غياب طرائق المعالجة، وفي تعطيل حيازة الإرادة وفي تأمين وسائل الكشف والنبش والاستبانة، وهذا ما يجعل الحوار الثقافي قريبا من الجدل البيزنطي، والجدل الاستحواذي، إذ يجاهر العديد من المثقفين بنوع من (الوعي المُسلّح) أو التلبّس بأقنعة الفقيه والثائر والمُصلِح والمُنقِذ، ونشر الغسيل السياسي والأيديولوجي وحتى الطائفي بوصفه غسيلا ثقافياً..
وهم المعرفة هو أكثر تشوهات العقلانية العربية، فضلا عن أنَّ هذا الوهم ظل لصيقاً بتعويمات الخطاب السياسي، إذ هو خطاب جماعات أكثر منه خطاب مجتمع، وخطاب طائفة أكثر من خطاب دولة، وخطاب منسوج على إيقاع المعارك الأيديولوجية أكثر من خطاب حوار ووعي ومشاركة.
أزمة العقلانية تعني أساساً أزمة نقدها، والتعاطي مع أسئلتها، فما طرح من أفكار وقراءات حول (نقد العقل العربي) ظل أسير أوهام جماعات وفرق، وليس نقداً بالمعنى التحليلي العميق، فحديث العقل المستقيل، والعقل البرهاني والعرفاني ظلت أُطراً تتشيأ فيها المعطيات المضطربة، وبما يعيدنا أيضا إلى منطقة الفرق الناجية، فبقطع النظر عن الاتكاء على منهجيات حديثة، وعلى وعيٍ مفارق، إلّا أنّ طبيعة المعالجة ستكون هي الفيصل الذي يُعطي للخطاب النقدي فاعليته، ويُسهِم في موضعة الجهاز المفاهيمي داخل سياق تفاعلي يُمكِّن الفاعلين الرئيسيين تاريخيا وسياسيا وثقافيا من التصرّف بالمعرفة، بوصفها نوعا من (العقل الشجاع) وقوة صالحة للتغيير من جانب، وقوة للتجاوز بالمعنى الأبستمولوجي والأنطولوجي من جانب آخر.
السياسية والصناعة الثقافية
محنة الثقافة العربية وصناعاتها المُعقدة تكمن في طبائع الاستبداد السياسي، وفي علاقة هذا الاستبداد بالسلطة والمُقدّس والتاريخ، مقابل ضُعف بيّن في المنظومة المهنية للأنتلجنسيا العربية، إذ لا نلمس أي قدرة على ممارسة النقد بوصفه وعياً أو تفكيكا لعُصابية الاستبداد، بل نجد أنفسنا وسط متاهة ثقافية، متاهة تتسع للمثقف التابع، والمثقف الانتهازي والطائفي، وبما يجعل صورة (المثقف النقدي) أكثر شحوبا على حائط العائلة والمؤسسة.
أغلب المثقفين مُختلفون بهوس – بعضهم بعضا- في النظر إلى علاقة الثقافة بالسياسة، وإلى قدرة الخطاب الثقافي على ملامسة الأسئلة الفاجعة، وإلى التعبير عن لحظة مكاشفة حقيقية مع تبديات الحداثة والتنوير والإصلاح، إذ ما يتبدى اليوم، وفي ظل صراعات مكشوفة ومُصطنعة مكرراً وعدوانيا وطاردا، ومسكونا بالكثير من مظاهر الرثاثة الاجتماعية والثقافية والتنظيمية، مع عجز في التمكين عن مكاشفة مظاهر الأزمة التي يعيشها الواقع العربي، وفي رصد توصيفات تلك المظاهر وسردياتها وطبيعة التحولات الحادِثة في الفكر والهوية والمؤسسة والأيديولوجيا، وفي رؤية ما يبدو ناتئا في الجسد القومي من فوضى، ومن زحمة تتشظى عند التنافس على غنائم الوهم!
العجز السياسي يعبّر في جوهره عن عجز ثقافي مريع، وعن تعويم لما تركته العقائد الثورية والرومانسية والحزبية من آثار على العقل الثقافي، إذ بدت تلك العقائد وكأنها ترمي بضاعتها في الفراغ، وأنها عاطلة عن إجراء وتأسيس أي فعلٍ حقيقي، وأنَّ مثقفي الثورات والعقائد والأيديولوجيات لم يتركوا سوى فؤوس فلكلورية وأحلام شاحبة، أو ضحايا سرعان ما تحولوا للأسف إلى صور عالقة على الحيطان العائلية.
ما نراه اليوم وسط هذه العتمة يضعنا أمام رعب السؤال الثقافي، إذ كيف للمثقف أنْ يكون فاعلاً وسط عطالة مؤسساتية واجتماعية؟ وكيف له أنْ يضع خطابه بمستوى تحديات المرحلة وإشكالاتها المعقدة؟ وكيف سيجد هذا المثقف المُستلب دوره وسط أدوار مجاورة مضللة وضاغطة؟
هذه الأسئلة يمكن أنْ تكشف عن حجم مريع لعري الحالة الثقافية، وعن ضعف الدولة (الوطنية) في التعاطي مع أي مشروع ثقافي قومي حقيقي، وعن الحاجة إلى مكاشفة جريئة ناقدة ونافذة للواقع المعطوب، ولتداعيات تضخم مظاهر العنف والإرهاب والطائفية، التي تضع الصناعة الثقافية أمام استحقاقاتٍ لازمةٍ، وأمام أسئلةٍ جديدة، لاسيما مع ما يتعلق بالتاريخ الذي فتح فمه فاغراً، وعادت إلينا أحداثه ومعاركه وهي مسكونة برعب التأويل والكراهية، فضلاً عن تضخم مظاهر العجز السياسي وتشوهات قيم الحرية والديمقراطية والحقوق، التي باتت تضع الكثير من علامات الاستفهام على ما يجري، إذ أنَّ هذا العجز ليس بريئاً، ولم يأتِ من فراغ، وأنَّ من أكثر مبرراتهِ حدوثاً كانت البيئة الثقافية المشوهة، والبيئة الاقتصادية غير الإشباعية، فضلا عن رعب السلطة القديمة التي ظلت راكزة في لاوعينا الجمعي، وفي تعويم وجودها عبر مّقدّسِها وجيوشها العلنية والسرية، وعبر العديد من فقهائها وشُطّارها ومثقفيها المؤجرين..
لعبة الهيمنة تلك أسهمتْ الى حدٍ كبير في تفكيك الكثير من البُنى الثقافية، وإخضاع المؤسسة الثقافية إلى سلطة الحاكم والرقيب الأيديولوجي والفكري، والتي كان لها دور لافت في صناعة القمع الثقافي والمنفى الثقافي، ذلك المنفى/ المهجر الاضطراري والقهري، فضلا عن أن ركودها في البيئة الوطنية جعلها أكثر تفاهة، لكنها أكثر قسوة، يتلبّسها وهم الخلود والإثرة ومراثي الخندق الطائفي، الذي تحوّل- للأسف- إلى أخطر لعبة في تشويه القيم الوطنية والهوية الوطنية ومنظومات الحقوق المدنية..
الأسئلة هنا: كيف يمكن مقاربة الحالة الثقافية بعد كل ما جرى؟ وهل يمكن استعادة الوظيفة الثقافية لتكون ساندة للسياسي والأمني والاجتماعي؟ وهل يمكن لصورة الدولة الجديدة أن تحظى بالقبول، وأن تكون أكثر عناية بالملف الثقافي أُسوة بالملفات الأخرى؟
فبقدر ما تكون هذه الأسئلة ضرورية، فإنها تستدعي معها بقوة حاجة الوعي بخطورة معرفة المتغيرات، لاسيما مع بروز أشكال أكثر تعقيدا ل(الاستبداد السياسي) وصعود ظاهرة الإسلام السياسي والجماعات الإثنية والطائفية، ومع تحوّل الصراع السياسي التقليدي ذي النزعة الانقلابية والأيديولوجية إلى صراع هويات وخنادق وجماعات، والذي يحمل في جوهره الكثير من الشيفرات الثقافية المُجهضة، تلك التي عمد العقل السياسي القديم إلى تغييبها، وحجرها داخل محاجر السلطة بوصفها جزءاً من المسكوت عنه.. لذا تبدو الحاجة إلى المراجعة والنقد والفحص ضرورية، لأنها تنبذ وهم جلد الذات، مثلما هي قيمومتها على صناعة مولّدات (العقل الشجاع) النقدي والفعّال، لمواجهة ما يتساقط من أخطار السكوت عن هذا المسكوت، ومنع تعويم إشكالاته.
الوعي بأهمية المراجعة يعني الخروج عن الفرجة، والانخراط في الوعي النقدي، حيث نقد العقل، ونقد المؤسسة، بما فيها مؤسسة السلطة ومؤسسة الفقه، لأنَّ فكَّ اشتباك هذه البُنى مع تاريخ الأزمات التي تحوطنا، وتحاصرنا بأوهامها ورعبها، سيُعطي للمثقف هامشا قويا من الحرية، وحافزا للنظر بمسؤولية إلى أهمية تأصيل مَدَنْية الثقافة العربية، وإلى إعادة تجليات بعض تاريخها التنويري، وشجاعة مثقفيها، لتكون عنصر إضافة لحماية مشروع الدولة الجديد، وتعزيز قيمها في التنوع والتعدد والتحديث وتلمّس الأسباب التي تثيرها أسئلة العصر الذي نعيشه.
كاتب عراقي