الحب والصراع مع التقاليد في فيلم «عصر البراءة»
لندن من نسرين علام: عاشوا في عالم يشبه الهيروغليفية. الأمر الحقيقي لم يكن يُقال أو لم يكن حتى يُفكَّر فيه صراحةً. كانوا يعبرون عنه فقط بمجرد رموز وإشارات»، هكذا تقول الراوية صوت جون وودوارد التي تصحبنا في ذلك العالم الذي يصوره لنا مارتن سكورسيزي في فيلمه «عصر البراءة» (1993). يعرض الفيلم عرضا مطولا في دور العرض في لندن يستمر حتى نهاية الشهر الجاري ضمن موسم يحتفي بالأعمال الكاملة للمخرج الأمريكي.
«عصر البراءة» أحد أعظم أعمال سكورسيزي وأكثرها رقة، ولكنه فيلم لا يحظى بالتقدير الكافي، لأنه، مثل «هيوغو» (2011)، يقف خارج النسق العام المعتاد لأفلام سكورسيزي. الفيلم قصة رجل متمرد فكرا وعاشق قلبا، ولكن لالتزامه بالتقاليد المجتمعية وبما يليق أو لا يليق، يحيا في زواج بلا حب، محروما من العيش مع المرأة التي يحبها وتحبه. قد يجد البعض غرابة في تصور أن يخلق مخرج أفلام تضج بالغضب والرصاص مثل «سائق التاكسي» (1976) و»الثور الهائج» (1980) عالما برفاهة ورفاهية العالم الذي يصوره «عصر البراءة»، ولكن بوسعنا أن نقول إن الألم والغضب اللذين وجد لهما ترافيس، بطل «سائق التاكسي» متنفسا في إطلاق النار، واللذين حاول جيك لاموتا، بطل «الثور الهائج»، أن يتخلص منهما في حلبة الملاكمة، هما ما عاش نيولاند آرشر (دانيال داي لويس)، بطل «عصر البراءة» دون أن يجد لهما مخرجا أو متنفسا.
تدور أحداث الفيلم، المقتبس عن رواية للروائية الأمريكية إديث وارتون، الذي كتب له السيناريو بحساسية وفهم عميقين جاي كوكس ومارتن سكورسيزي، في عالم الطبقة العليا من مجتمع نيويورك، وتبدأ أحداثه في سبعينيات القرن التاسع عشر.
هذا العالم الأنيق للغاية سطحا، الذي يرفل في الثياب الفارهة ويعيش في القصور
الفخمة، تحكمه قواعد سلوكية صارمة وشديدة الإجحاف، تقرر من يجب على المرء أن يتزوج ومن يجب عليه أن يحب، ومع من يجب أن يختلط وإلى من يجب أن يتحدث، ومن يخالف هذه التقاليد علنا تواجهه الفضيحة ويصبح منبوذا، طريدا خارج هذا المجتمع الذي تسيره المصالح والأموال والأعمال.
رغم التحامه الظاهري ببنية طبقته الثرية وتقيده بقواعدها، يعيش آرشر، الذي يلعب داي لويس دوره ببراعة فائقة ورقة تسحق القلب، غريبا روحا عن عالمه، حبيسا في الدور الذي يجب عليه لعبه في المجتمع كالمسؤول عن ثروة أمه وأخته وكحامل اسم أسرة عتيدة. يجد ملاذه في الاختلاء بنفسه في مكتبة منزله وسط كتبه واللوحات التي اقتنتها أسرته. لديه وظيفة مرموقة آمنة في مكتب محاماة، وتنفيذا لما يُتوقع منه مجتمعيا، تقدم لخطبة تلك الوادعة الباسمة الرقيقة شديدة النحافة والتقليدية ماي ويلاند (وينونا رايدر)، لتتوثق بخطبتهما أواصر الصلة بين عائلته وعائلتها الثريتين.
ولكن عودة الكونتيسة إلين أولينسكا (ميشيل فايفر) إلى نيويوك تجلب معها خضما من المشاعر لحياة آرشر. إلين أمريكية تزوجت إرسطوقراطيا أوروبيا، ولكنها لمجونه ولعدم سعادتها معه تفر لتعود إلى نيويورك. إلين هي النقيض التام لماي، رغم صلة القرابة بينهما. إلين هي المرأة التي يحدث ظهورها في دار الأوبرا في مستهل الفيلم الكثير من الهمهمات والنظرات والكثير من اللغط. قبيل أن ينطق أي من أبطال الفيلم بكلمة واحدة، وفي ذلك المشهد الافتتاحي في دار الأوبرا، نعلم أننا أمام امرأة لا يستهان بها. امرأة تتحمل نظرات الحضور في صالة الأوبرا جميعا منصبة عليها في هدوء وابتسامة وعدم اكتراث. هي تلك المرأة المتحررة القوية التي يجد فيها ذلك المجتمع تحديا وتهديدا لقواعده ولنسيجه. جامحة هي، متمردة، مثقفة، خبرت الحياة وفهمتها، وعاشت في خضم الثقافة الأوروبية. في نيويورك بعد عودتها، تجد الملاذ والتفهم من آرشر فقط، وتصبح أحاديثهما المتكررة في مكتبته متنفسها ومتنفسه الوحيد.
إنها قصة حب مستحيلة، ولكن لا محالة من حدوثها، حب لو قُدِّر له أن يظهر علنا، لكان فيه تمرد تام على المجتمع. يجد آرشر في إلين الروح الحرة والتفتح والتفهم التي لا يجدها لدى ماي. وهي تشعر بأنه النصير الوحيد لها والمتفهم لثورتها وجموحها، رغم الشائعات التي تحيط بها. تحاول أن تحرضه على التمرد: «كل هذا الامتثال الأعمى للتقاليد، الامتثال لتقاليد آخرين، لا حاجة له على الإطلاق». وتحاول أن تدفعه للخلاص قائلة إن «الوحشة الحقيقية هي أن تعيش وسط هؤلاء الأشخاص الذين لا يطلبون منك سوى الادعاء». ينتهي الفيلم بإحساس من الحزن والاستسلام، استسلام آرشر لزواج لا حب فيه امتثالا للتقاليد. ينتهي الفيلم كمرثية لحب جميل ما كان له أن يزهر.