وإمكانية التعايش
2من اصل3
وكلما حارت بالشعوب عبارات اللغة عادت القهقري لمحاكاة صور الطبيعة وذلك لكونها تعتبر لغة مرجعية يفهمها الجميع.
غير أن الإنسان حين اكتشف دلالات الأصوات ورموزها، وعَر عنها بالحرف؛ برع في البيان ثم عمد لتوثيق اللسان بالبنان، فكتب ودوَّن، إذ ليس فعل الكتابة بالحروف أو الرموز والنقوش إلا إحدى صور ترجمة البيان اللساني، وإن شئت أن تقول عكس ذلك فلن تبعد النجعة.
وكلما اتسعت حضارة أمة ازدانت ثقافتها بالعبارة والبيان، واتسعت أوعية لغتها لتعبر عن حضارتها وهويتها. وحين تطورت وسائل الاتصال ورضيت الأمم والشعوب أن تتبادل المعارف؛ ظهرت الاختراعات فقربت المسافات واختزلت الأسفار وتبودلت الأفكار، فكان في ذلك خير كبير من حيث تيسير الاتصال. إلا أن هذا التيسير انقلب نقمة في حق الكلام والكتابة والتأليف، إذ إن تطور التقانات أدى إلى إلغاء الحدود والفواصل فيما بين طرائق الاتصال فجعلها عالمية في وصولها للمتلقي، كما أن الأشكال المبتكرة الرقمية المحوسبة، قد أنتجت حوارًا تفاعليًا متبادلًا بين الوسيلة والمتلقي، فنتج عنه الشيوع والانتشار والإتاحة للجميع، وتخطي حاجز المحلية إلى العالمية، وتعددت وسائط وسائل عرض الأفكار والمعلومات في أشكال متنوعة من النصوص والصور المتحركة، وقد أثر ذلك الفعل على أنماط وعادات السلوك الخاصة بوسائل الاتصال؛ فأقبل الناس على اقتنائها واستخدامها، واندمجت عناصر تقانات الحاسب مع تقانات الاتصالات وأقمارها في توليفة أنتجت أنظمة الشبكة العالمية التي أصبحت وسيطًا عملاقًا ضم بداخله جميع وسائط الاتصال الأخرى المطبوعة والمسموعة والمرئية والجماهيرية والشخصية، فاختصر بذلك حواجز الزمان والمكان، وقرب بين الواقع الفعلي والافتراضي والحاضر والغائب داخل فضاء المعلومات، فكأنه نقل البشر والطبيعة إلى فضاء الشبكة، وإن شئت فالعكس صحيح كذلك.
وبهذا، فإن الإنسان قد أصبح غير محتاج للجهد الذي كان يبذله في صياغة اللغة وطرائق البيان وفصاحة اللسان، فطرائق التعبير أصبحت متعددة بين يديه، بل ومتاحة عبر الهواتف النقالة والحواسيب اللوحية والدفترية للتواصل مع العالم كله عبر وسائل التواصل الاجتماعي.