الخزف… الفنّ الذي هجره المجتمع
في عاصمةٍ أغوت الحضارات على مرّ الزمان وجعلت الشعوب تستوطن فيها حتى بنت فنًّا وتراثًا، لا يزالُ حاضرها شاهدًا على ماضيها، إنّها القدس التي جعلت للحِرف اليدويّة موطنًا لها منذ مئات السنين، فالحِرف اليدويّة عاشت فترةً ذهبيةً في الحواري القديمة، لتبقى شاهدة ومقاومة لكلّ هذا الاندثار.
بالبلدة القديمة، وتحديدًا في سوق حارة النصارى بالقدس، يجلسُ صانع الخزف، حكم العلمي (57 عامًا)، منذ أربعةِ عقودٍ تقريبًا يصنعُ ويرسمُ الخزف الملوّن الفنيّ بأبهى الصور وبمختلف الأشكال، ورغم أنّ غالبية الخزف معدًا للاستعمال منذ قرون، لكنّهُ يكاد أن يكون تحفًا فنيّة مزخرفة بأدق التفاصيل بتكرار اللون الأزرق على غالبية الخزف.
الخزف كمهنة
الخزف لمن يجهله هو طينة يتم تحضيرها من خلال تفتيت نوع خاص من الحجارة وتحويلها إلى مسحوق وخلطها مع الماء، ويمكن صنع الأشكال المختلفة منها كالكؤوس والصحون، وحين تجفّ يتم وضعها في الفرن لتحترق وتيبس الطينة.
بعد أن ييبس الطين يقوم العلمي بالرسم عليها ومن ثم يتم طلاؤها ببودرة الزجاج مخلوطة مع ماء ‘الجليز’، ومن ثم تعود إلى الفرن لتتخمر على درجة حرارة 1000 مئوية لتحمي الألوان والرسمة، ويعود تاريخ الخزف إلى الفراعنة المصريين الذين كانوا يستخدمون الفخار والأواني.
منذ مطلع العام 1980 بدأ العلمي مهنته في الخزف دون أن يعلّمه إياها أحد، بل عن طريق مشاهدة ومراقبة الصانعين الآخرين، بل هي موهبة على حدِّ قوله، إذ أنّه بدأ في هذه المهنة لوحده رغم المعيقات التي واجهته، ورغم ما تواجهه المهنة من اندثار إلّا أنّ العلمي يستثمر جهوده في هذه المهنة التي يرسم فيها أدقّ الخطوط والزخارف على الخزف بنفسه، بالرغم من أنّها تستهلك وقتًا وجهدًا، لتصل أحيانًا إلى 3 ساعات للقطعة الواحدة، فهي مهنة تحتاجُ فنّا بالدرجة الأولى.
تطورت هذه المهنة، وعن هذا أفاد العلميّ ‘أصبحنا نعزل المواد السامة والرصاص الموجود في الخزف حديثًا، كي لا يتجاوز الرصاص نسبته المسموح بها، عدا عن أنّ هناك أكثر من طريقة لصنع الخزف، إحداها عبر الدولاب أو اليد وهي طرق الصناعة اليدويّة، أما صناعيًا عبر قوالب جاهزة’.
الخزف في المجتمع العربيّ
الفنّ الذي تحتويه هذه القطع لم يمنع المجتمع العربيّ من هجرانها، فيقول العلميّ متأسفًا إنّ ‘المجتمع العربيّ لا يستعمل الخزف بالرغم من أنّها من صلب التراث الشعبيّ الفلسطينيّ، ولكن المنازل العربيّة مفتقدة لها’، وهذا يعود إلى أسباب عدّة عزاها العلميّ إلى ‘الظروف المعيشيّة التي لا تسمح للعائلات العربيّة بشرائها فإن كُسرت يعتقدون أنّهم خسروا المال ولكن هذا لا ينفي وجود بعض العائلات المقتدرة التي تشتري الخزف مع العلم أنّ الأغلبيّة الساحقة غير مقبلة عليه’.
وعن عزوف المجتمع العربيّ عن تعلّم واحتراف الخزف كمهنة، قال العلميّ إنّ ‘السبب في هذا يعود إلى عدم رغبة الجيل الحديث بالرسم والفنّ، فشباب اليوم يريدون كلّ شيء جاهزًا ولا يميلون إلى هذه الحرف اليدويّة التي تستغرق وقتًا وتحتاج صبرًا’.
وتابعَ أنّ ‘المجتمع العربيّ يتجه لشراء المنتوجات الصينيّة والإسبانيّة والتركيّة، أما الأجانب واليهود هم الأكثر إقبالاً على الخزف بالرغم من أنّه يعود لحضارتنا ولا نشتريه نحن بصفتنا صانعي هذه الحرفة والفنّ، سواء كانت بلاط، مزهريات، صحون، كؤوس’.
مشيرًا إلى أنّ هناك عدم تقدير كافٍ في المؤسسات التربويّة، ‘ففي المدارس لا توجد توعية على الحرف الموجودة، فعلى سبيل المثال يجب في الحصص المدرسية التي تعتني بالفنّ أن تُعلّم الطلاب عن الخزف وباقي الحرف الفنيّة التي انقرضت ولكننا نقوم عبر مؤسسات أخرى بمحاولة إحياء هذا الفنّ وتمريره إلى الأجيال الصاعدة’.
الوضع الاقتصاديّ
يعلّق العلمي أنّه يقوم في الوقت الحاليّ بالرسم على القطع الجاهزة لأنّ صناعة الخزف تحتاجُ إلى أماكن واسعة ومعدات ومواد ولا نستطيع إنتاج كميّات منها، وعن الأوضاع في القدس فيصفها العلمي ب’التعيسة فالأوضاع الاقتصاديّة صعبة وهناك غلاء شديد في المعيشة’.
ومن جهة أخرى لا يمكن التعويل على السياح كمصدر رزق كما يقول العلميّ فإنّ الأوضاع الاقتصاديّة المحليّة تتزامن مع الأوضاع الاقتصاديّة المتدهورة التي يعاني منها السائحون في أوروبا، فحين يأتي السائح إلى البلاد لا يملك الكثير من النقود في جيبه بسبب إنفاق هذا المال على مصاريف السكن والسفر، وبهذا يحرص على اقتناء التذكارات الرمزيّة جدًا والتي يكون سعرها زهيدًا جدًا أيضًا.
اقرأ/ي أيضًا الخليل… نحو ‘المدينة الحرفية لعام 2016’
ويضيف العلميّ أنّ ‘بعض المرشدين السياحيين لا يسمحون للسائحين بالاقتناء من متجره، بسبب تعاقدهم مع متاجر معيّنة كي يأخذوا عمولة من تلك المحال’.