الرأي والحماية

الرأي والحماية

الرأي والحماية

منذ أيام، وصلتني رسالة معنونة بالتالي: إلى الأخ الناقد أمير، ومعها رواية مخطوطة يريد صاحبها دراسة نقدية، ينشرها معها، قبل ذلك خاطبني آخر بلقب الأستاذ الناقد، وأرسل لي كتابا منشورا من أجل القيام بدراسة فيه، وأرى كثيرين، يتابعون ما أكتبه هنا، وفي أماكن أخرى، وأنشره بعد ذلك في كتب خفيفة ربما تهم أحدا، أو لا تهم، ويعتبرونه نقدا، ويتحاورون معي على هذا الأساس.
الحقيقة لا بد من توضيح هذه المسألة، وهي أن الكاتب الروائي الذي ينفق زمنا في قراءة الكتب، وزمنا مضاعفا في كتابتها، لا بد في النهاية من أن يمتلك رأيا خاصا، يعبر به عن الأشياء كلها من حوله، سواء كانت أشياء عامة تهم الناس كلهم، أو أشياء خاصة تهمه وحده، وهذا الرأي الذي يعبر به عن تلك المشاهدات وينشره من حين لآخر ليس نقدا أبدا، ولا يصلح للتبني كرأي ممنهج أو مدروس، إنه فقط تلك الأفكار المتراكمة حين تخرج وراء فكرة وتقتنصها، ومن ثم تطرحها للتداول والحوار.
لذلك ما يمكن أن أكتبه عن تجربة كاتب مبتدئ أو كاتب راسخ في الكتابة، سواء كانت كتابة إيجابية أو سلبية، لا تعني أنني درست التجربة كلها، وتمعنت في جوانبها الجيدة وغير الجيدة وكتبت ما كتبت. وقد ذكرت مرة رأيي في ما قرأته للبرازيلي المشهور باولو كويلهو، مثل «فيرونيكا تقرر أن تموت»، و«حاج كومبو ستيلا»، وغيرهما، وقلت إن تلك الكتابات لم تلائمني ولم أستطع تذوقها والتفاعل معها، وهذا كاتب له جماهيرية عريضة، في كل مكان وله رواية عادية في رأيي، هي «الخيميائي» وصلت إلى كل مرفأ يمكن تخيله، وأجزم أن لها نسخا موجودة في كل مكتبة بيتية، حتى مكتبتي الخاصة، وبطبعات متعددة. وقد قرأ بعض جماهير كويلهو ما كتبت، وقالوا إن نقدي لم يكن صائبا، وأكرر الآن، أنني أدليت برأي ولم أكتب نقدا، لتجربة كبيرة، هناك مئات كتبوا عنها سلبا أو إيجابا.
الياباني هاروكي موراكامي، من الذين وطدوا صلة وثيقة بجمهور القراء، في العالم كله، وبجميع اللغات تقريبا، عبر روايات ملاحم، تحتاج الواحدة منها إلى زمن طويل، ربما يقترب من الشهر، من أجل أن تقرأ، وقد تخطى في ذلك الانتشار روائيين عظماء من بلاده، من أمثال ياسوناري كواباتا، صاحب، «الجميلات النائمات»، ويوكو ميشيما صاحب رواية «القناع» المهمة في الأدب العالمي.
إنه، أي موراكامي، نموذج للكاتب الذي امتلك مناعة ضد الآراء السلبية، وضد النقد السلبي، ولم يعد بمقدور أحد يقرأ له، إلا أن يشيد به، وبصورة حماسية جدا.
لقد قرأت «كافكا على الشاطئ»، قصة الولد الذي هرب من البيت، والرجل الذي يحادث القطط، وقرأت «الغابة النرويجية» أيضا وأعدهما نصان جيدان، لكنهما ليسا أسطوريان كما يراد من الجميع أن يهتف، فلا توجد نصوص أسطورية، في أي ثقافة وأي كتابة، بمعنى لا توجد نصوص لا يستطيع أحد آخر أن يكتب مثلها، أو يتفوق عليها، وإنما توجد مناعة ضد القول المضاد، الرأي المضاد، تجعل الكرة الأرضية كلها تمجد نصوص موراكامي، ونصوص غارسيا ماركيز ونصوص يوسا، وكونديرا، وترى أي نصوص أخرى لا تضارعها، وأيضا يوجد كثير من التجني التخريفي كما أسميه، التجني الذي يجر نصوص الآخرين، ليجعلها نصوصا مسروقة من هؤلاء المحتمين بمناعة الرأي المضاد، وهكذا، ويصل التخريف مداه، حين يكتب قارئ أو شخص يفترض أنه قارئ عن رواية أفريقية في كل شيء، من زيها إلى لغتها إلى أجوائها، إلى كاتبها الذي لم يبرح أفريقيا قط، واصفا إياها بأنها نسخة من أعمال كاتب أوروبي من الممتلكين للمناعة ضد الرأي المضاد.
منذ فترة، كان أحدهم يحدثني عن رواية «حفلة التفاهة» لميلان كونديرا، تلك الرواية الصغيرة التي لا تعثر داخلها بسهولة، أو حتى بصعوبة، على أحداث مهمة، أو تسلسل للأحداث الموجودة بالفعل، ولا تفهم إلا بعد إرهاق الخيال والتفكير، السبب في وجود شخصية الزعيم الروسي جوزيف ستالين وصيده لطيور الحجل؟ كان القارئ يحدثني بانبهار، وأسأله بهدوء:
ما هي الشخصية التي رسخت في ذهنك من تلك الرواية؟ فلم يستطع الرد
عن ماذا كانت تتحدث الرواية؟ ولم يستطع التقاط فكرة محددة، استلمها النص ومضى بها عبر شخصياته المتعددة. كانت الرواية في الحقيقة هذيانا لطيفا وممتعا، بلا عامود فقري يتكئ عليه لحم النص، وأجزم أنها لو كانت لكاتب عربي، لما صمدت تحت سواطير من يقرأون ويكتبون مراجعاتهم عن الذي قرأوه.
لقد دخلت شخصية جوزيف ستالين بالمناسبة في نصوص كثيرة، ومنها نص لي، لكن دخولها في رواية «المئوي الذي قفز من النافذة واختفى» للسويدي يوناس يوناسون، كان ملائما جدا، ومتناسقا مع الحكي الواضح البعيد عن الهذيان.
في أمريكا توجد كما هو معروف، قائمة ترويجية للكتب، هي قائمة «نيويورك تايمز»، والكتاب الذي يدخلها، ويكتب على غلافه: من الأكثر مبيعا حسب قائمة «نيويورك تايمز»، يكتسب صفة المحمي من الرأي المضاد والنقد السلبي على حد سواء.
لقد تابعت مرة تلك القائمة، واستللت منها كتبا تحمل صفة الأكثر مبيعا وقرأتها، وأذكر أن بينها قصة لجرائم تحدث في حقول الفراولة، ويرتكبها عامل سايكوباثي، أو عصابي.
كان شيئا غريبا أن رواية بمواصفات بدائية جدا، ويعرف بطلها القاتل من ربعها الأول، تدخل تلك القائمة، وتكتسب الحماية الكبرى، حيث قام القراء بمراجعتها على أمازون، وكانت معظم الآراء في صالحها.
هذا المثال يؤكد أن كل ما يتعلق بصناعة الكتابة، وصناعة الأسماء التي يراد لها أن تستمر، ملغية أخرى ربما أفضل وأكثر موهبة، صحيحا، وحتى قوائم الترويج، وقوائم الجوائز العديدة التي تمنح في كل مكان، ليست حقيقية أبدا، ولا يمكن الاعتماد عليها.
كاتب سوداني

m2pack.biz