الزعيم…
بعد منتصف الثمانينيات بقليل استلمت أول وظيفة لي في سوق الشغل، كمشغل بدالة في فندق الواحات الذي يتوسط شارع عمر المختار في طرابلس، وكان الواحات في تلك الفترة واحدا من أهم الفنادق في البلاد، بأدواره الستة عشر وواجهته الزجاجية الجميلة العالية. وبسبب ظروف دراستي الجامعية كنت أداوم بالوردية المسائية من الساعة الرابعة إلى ما قبل منتصف الليل، أو بالوردية الليلية من الليل حتى الصباح.
منذ أول يوم في الدوام، تكرر اسم الزعيم مرات ومرات، على نحو (خليها توا ايجي الزعيم يوقعها) (لا لا حتى الزعيم قال صح) (الزعيم حل مشكلة الغرفة) (منو شاف فاتورة الزعيم) (الزعيم بيحول العشية) (الزعيم بيحول الصبح) (المفتاح عند الزعيم) واستمر هذا الاسم يتردد حتى كرهت الزعيم قبل أن ألتقيه، وبطبيعة البدوي الوافد على العاصمة مؤخرا، تجنبت أن أسال من هو هذا الزعيم ؟ وأنا الذي كان لا يسمع إلا بزعيم واحد للبلاد، لذلك قررت أن اكتشف شخصية الزعيم بنفسي، معتمدا على وظيفتي في البدالة، فلابد أن يتصل زعيمهم. هكذا قررت أنه زعيم على نفسه وعليهم.
فقط لو يتصل هذا الزعيم بالبدالة، سوف أضعه في حجمه، وسوف يعرف أن زعامته لا تعنيني.. سوف أقفل السماعة في وجهه، لا..لا سوف أتجاهل الرد عليه بسرعة، ثم أطلب منه وبحدة أن يرفع صوته حتى إن كان صوته مسموعا، فالمهم أن أصرخ في وجه الزعيم. سوف أطلب منه بكل تعال أن يعرّف نفسه، وإذا قال إنه الزعيم عندها سوف أطيح ببرجه العاجي بلمسة زر واحدة، أنت زعيم على روحك.. وخوفا من أن يكون الزعيم مخابرات أو أمن داخلي وهذا أمر ليس بعيد الاحتمال، فلابد من الاحتياط، ببحة صوت مختلفة وبجملة قصيرة بسيطة فقط نختم بيها قبل ما نقفل السماعة: البلاد فيها زعيم واحد بس وطب نسكر السماعة.. وهكذا لا مجال له أن يستدعيني للتحقيق، وأنا لن أخسر شيئا، بالعكس أكون قد أطحت بالزعيم قبل ان أراه. هكذا خططت وترقبت اتصالا.
لكن الزعيم لم يتصل وصبري بدأ ينفد، وأنا الذي قررت مجابهته بمجرد سماع صوته قبل أن أراه، وطالت المدة، مرّ الشهر الأول طويلا دون أن يظهر الزعيم، ولكنه كان حاضرا دائما، اسمه الذي يتردد بات يزعجني، رغم أنه موظف خزينة عادي مثله مثل أي موظف خزينه في فندق، كرسي وطاولة وماكينة (أن سي آر) يحيط به الزجاج من جوانبه الثلاثة، والجانب الرابع مفتوح على الاستقبال بلا باب.
الزعيم يصل بعد منتصف الليل، فكرت في انتظاره، لكن حافلة الفندق لا يمكنها أن تنتظرني حتى يصل الزعيم. وذات يوم أخذت الأمور منحى آخر مختلفا تماما، وتحول الفضول لرؤية الزعيم من مجرد فضول ورغبة مؤجلة للتشفي منه، إلى كابوس حقيقي وضرورة ملحة لم تعد تحتمل التأجيل، وذلك حين طلبني المدير مرة لمكتبه لمراجعة بعض فواتير الاتصالات المتراكمة على بعض الجهات العامة وبعض الزبائن، دخلت وجدته يتحدث بسماعة الهاتف الداخلي يرغي ويزبد.
وأشار لي بيده جلست وأنا أسمعه:
( ليش ال……)..(شنو هالم…..)..(اخدم باهي والا روح).. (منو الح……. اللي قالك هكي).. (قوله ينزل توا ويجيني في مكتبي). أخيرا أقفل السماعة، لكنه استمر يحدثني بحدة أقل مستعرضا (تموديره) وعدم رضاه من وردية البدالة في العشية: الزبائن يشكو من البدالة خيرك ماتردش بسرعة، ليش ديما متأخر، البدالات الزوز يخدموا والا واحده بس؟ وقبل أن أرد وصل التيتاح.
طرق خفيف ع الباب (تفضل) ودخل التيتاح مشرف المطعم المغربي ببدلته الزرقاء المخططة، وبوجهه الملون بكل أشكال الارتباك، ودون ان يتكلم مد المدير يده واخذ الفاتورة..
شنو اللعب هذا؟ هذي مش خدمة، شنو ها الفوضى، معقولة يا تيتاح تفوت عليك حاجة زي هذي توا هكي باهي، لازم تلغيها.. لكن التيتاح رد بكل ثقة
لا يا أستاذ شافها الزعيم وقال عادي تقعد كما هي.
ضربة غير متوقعه من التيتاح أصابت راس المدير الذي زم شفتيه.. أمم. أمم ومرة أخرى أمم أمم.. وأخيرا نطق:
– متأكد إن الزعيم شافها… هز التيتاح راسه أكيد
– باهي باهي خلاص توا أنشوفه إرجع لعملك، وانتبه لوجودي ورمقني بقلق:
– إرجع انت لبدالتك غدوة توا نحكوا ع المتراكمات.
لا لا (هكي خلاص) لم أعد احتمل حتى أنت يا مدير، وانت الذي قضينا ساعات ونحن نخمن من تكون؟ فندقي مخضرم من أيامات الملك وشهادتك الفندقية من النمسا، والا عقيد في الخارجي والا مقدم في الداخلي والا استخبارات والا من المتحركين والا من الرفاق ،، المهم كنت حاجة كبيره توا خلاص إنت مدير عليهم هما بس بالنسبة ليا أنت مديرك الزعيم.
قررت أن انتقل للعمل بوردية الليل، ورغم الصعوبة تحججت بكل الوسائل فتم رفض طلبي بعدم وجود بديل، الغريب أن زملائي أشاروا عليّ بالاستعانة بالزعيم أنا أستعين بالزعيم صبركم بس توا تشوفوا الزعيم هذا كيف نقرا أوراقه كلها أخيرا وجدوا البديل وتقرر نقلي ومباشرتي للعمل بوردية الليل وردية الزعيم.
أول ليلة لي في العمل، وصلت قبل أن تبدا ورديتي، وكنت مرتبكا جدا، حتى أنني تجاهلت دونما أن اقصد ترحيب الزملاء بي، وأيضا عاملت الزبائن بجفاء، وألغيت عدة مكالمات دولية وداخلية، وأنا أترقب وصول الزعيم، المشكلة أن اسم الزعيم تكرر كثيرا جدا جدا في زمن قصير، المفروض أن الزعيم وصل الآن، لكن الغريب حسبما فهمت من الزملاء أن ليس من عادته أن يتأخر، فجاءة سألني أحدهم هل اتصل بك الزعيم وأجبت بسرعة لا شنو فيه؟ حتى أنا قلقت على الزعيم قبل أن أراه، وتوالت المكالمات هذا قسم الحركة… شوية ويرن الهاتف من قسم الحركة منقسم الصيانة، من النادل في المقهى، وتقريبا كل الأقسام التي تعمل في الليل قلقة بسبب عدم وصول الزعيم.
مرت ساعة وساعة أخرى ولم يصل، ساد قسم الاستقبال والخزينة والمقهى الأرضي جو من الكأبة، وأنا رأسي يكاد ينفجر، كيف يسأل كل هؤلاء بقلق حقيقي وخوف عن سبب تأخر الزعيم رغم تظاهري بعدم الاكتراث كنت أكثرهم قلقا، أحدهم رمقني بنظرة غريبة مفادها أن قدومي للعمل بالليل فأل سيئ.. مرت الليلة طويلة بقلقها وخوفها ولكن يبدو أنني فعلا كنت نذير شؤم.
في الصباح وقبل أن أغادر بقليل استقبلت مكالمة:
– ألو
– ألو صباح الخير فندق الواحات تفضل
– بلغ الزملاء إن الزعيم مات…
– ألو… ألو
– طوط.. طوط.. طوط..
قاص وإعلامي ليبي
سالم أبوظهير