السرد والتاريخ
في نهاية مقالة حول «السرد التاريخي» تساءلت: ما هي الأنواع السردية القائمة على التاريخ؟ كان المقصود من هذا السؤال تأكيد حضور نوع اسمه «الرواية التاريخية» في الإبداع السردي العربي، وأن تغييبه بدعوى كتابة «الرواية»، بدون تحديد نوعي، ليس سوى هروب من تأكيد «نوعية» الكتابة الروائية التي تستمد مادتها من التاريخ.
إن العلاقة بين السرد والتاريخ قوية جدا لاتصالها بالخبر. ولما كان السرد1، أيا كان نوعه، يتصل بحكي قصة واقعية أو متخيلة، كان التاريخ سرد وقائع وأحداث يفترض أنها حقيقية، لأنها وقعت بالفعل في الزمان. لكن «حقيقية» هذا السرد تظل تطرح أسئلة حول مطابقتها لما جرى، أو وقع، فعلا، فقد يكون الحدث واحدا، لكن طريقة تقديمه وتأويله تختلف باختلاف المؤرخين وأهوائهم الخاصة. لذلك يأتي دور عالم التاريخ للنظر في ما يقدمه المؤرخون بحثا عن «الحقيقة» التاريخية. وهو العمل نفسه الذي يقوم به عالم السرد، وهو يسائل العمل السردي أيا كان نوعه جوابا عن السؤال العام والضمني والجوهري: لماذا نحكي قصة؟ أو نكتب رواية؟ أو لماذا نقرأ الرواية ونحن نعرف أنها خيالية؟ كما ندرج العمل الذي يضطلع به الإخباري والمؤرخ ضمن «الخطاب التاريخي»، لأنه يرصد الحوادث والوقائع التي جرت في الماضي، نصنف العمل السردي الذي ينجزه الروائي، وهو يبنيه على «المادة التاريخية» ضمن «الرواية التاريخية» وعى الروائي ذلك أو أبى. ولعملية التصنيف أهميتها الخاصة في ضبط قواعد الأنواع السردية، وفهم طبيعتها، وعلاقات بعضها ببعض، وحدود كل منها انسجاما مع متطلبات التحليل. إذا كانت عملية تصنيف الأنواع السردية داخلة في المبحث الذي يهتم به السردي (المشتغل بالسرديات باعتبارها علما) من خلال ما يمكن تسميته «السرديات النوعية»، بالنظر إلى أنها فرع من السرديات، وتهتم بالبحث في تشكل الأنواع السردية وتطورها، وزوالها، كان لزاما البحث في النظر إلى الأنواع السردية أيضا في صيرورتها التاريخية للوقوف على ما طرأ عليها في التاريخ. ومن هنا اقترحنا فرعا آخر من السرديات التاريخية التي تعنى بالبحث في تاريخ الأنواع السردية وأشكالها («الكلام والخبر»).
إذا كانت السرديات التاريخية، كما نتصورها، تبحث في تاريخ الأشكال السردية أيا كان نوعها فإننا نعتبرها سرديات عامة لكون اهتمامها ينصب على تطور السرد في التاريخ بوجه عام. ويمكننا، إلى جانب ذلك، أن نتحدث عن سرديات تاريخية خاصة ترصد نوعا سرديا بعينه، وتنظر إليه في تطوره التاريخي. وأرى أن الاشتغال ب«سرديات تاريخية» تعنى ب«الرواية التاريخية» كفيل بجعلنا نفهم جيدا خصوصية هذا النوع الروائي السردي، فنبحث في تشكله وتطوره وآفاقه. وبذلك يمكننا الانتهاء إلى ضبط قواعد النوع، وتتبع صيرورته، والوقوف على ما طرأ عليه من تحولات أو تغيرات، بغض النظر عن موقف الروائي أو وعيه بالنوع الذي يكتب في نطاقه.
تدفعنا العلاقة بين السرد في التاريخ والرواية إلى التمييز بين السرد التاريخي والسرد الروائي. فلكل منهما سياقات محددة ساهمت في تكونه وتطوره. ولما كان السرد التاريخي سابقا في الظهور على الروائي كان له أثره المباشر أو الضمني على السرد الروائي. ألم يعتبر الروائي في القرن التاسع عشر «مؤرخ» العصر؟ كان السرد التاريخي في التراث العربي، كما تقدمه لنا المصنفات التاريخية، ينطلق من أن «سير الأولين عبرة للآخرين». أما السرد الروائي المبني على التاريخ فينطلق من أن الحاضر امتداد للماضي، ولا يمكن فهمه إلا في ضوء التاريخ. بين تعامل السردين مع التاريخ نجد رؤيتين مختلفتين: رؤية الراوي الناقل، ورؤية الروائي المبدع. يدفعنا هذا التمييز بين «الراوي» (المؤرخ)، والروائي (المبدع)، إلى تأكيد كون جذور الرواية التاريخية العربية ماثلة في السرد التاريخي. فالروائي يستمد مادته مما وفره له المؤرخ العربي القديم، ولكنه يقدم لنا ما ينتخبه من مادة حكائية وفق رؤيته الخاصة للتاريخ والواقع، من جهة، ومن جهة ثانية، حسب تجربته الروائية وخصوصيتها الإبداعية، وتبعا لمقاصده من اعتماد التاريخ في كتابته السردية. وفي هذا النطاق يمكننا أن نجد بعض الملامح «النوعية» في السرد الروائي التاريخي قائمة في مصنفات السرد التاريخي. ويمكننا الاستئناس بها في البحث عن أنواع الرواية التاريخية.
ينبني السرد التاريخي على أحداث وقعت في زمان ومكان معينين، في الماضي، من خلال فاعلين محددين، لذلك نجد الكتابات التاريخية العربية وهي تجعل الوقائع بؤرة الاهتمام، تتوزع حسب الأنواع التالية: التاريخ العام، والحوليات، أو تاريخ فضاءات عامة تتصل بتواريخ الأقاليم (مثل الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى) أو تواريخ المدن (دمشق/ بغداد/ القدس/ فاس)، أو بالتركيز على شخصيات عامة في حقبة أو فضاء معين «الأعلام للذهبي»، أو على شخصيات خاصة «سيرة الظاهر»: كتب السير.
انطلاقا من قراءة الرواية العربية في ضوء هذا المفترض نجدها تستمد «تاريخيتها» ليس من التاريخ العام، وإن كانت تنهل من مادته، ولكنها تتفرع إلى أنواع متعددة تتحدد في ضوء قراءة الروايات تزامنيا وتعاقبيا، وبذلك نمسك بالتكون والتطور، ونؤكد صلة السرد بالتاريخ الأبدية.
٭ كاتب مغربي
السرد والتاريخ
سعيد يقطين
العلم والاقتصاد شيء، والثقافة والأدب شيء آخر، والرواية كأدب شيء، وشهادة أحد المشتركين بحادثة تاريخية شيء آخر، ومحاورة إعلامي أو أديب مع أحد المشاركين بحادثة شيء ثالث، خلط الحابل بالنابل، سيؤدي إلى ضبابية لغوية في كل التخصصات، ومن يقول غير ذلك جاهل وليس له علاقة بالعلم، من وجهة نظري على الأقل.