‘السّارد والمارد’ في الأدب العربيّ
في العمل الرّوائي وَجْهان: وجهٌ سَاردٌ والآخر مارِدٌ، ومالسّاردُ إلا طريقة في الحبك اللّساني تقتفي الأثر المحكي ّأو تحاكيه ، والآخر ماردُ .وما الماردُ إلا فاعل مضادّ لذلك السّارد يتحدّاه بالتّصويب يتدبرأمر جسده العلاماتيّ بالتّحويل والّنقض فالتمرّد وفق مصطلح بعض مدارس النقد الغربيّ الحديث المعروف ب ‘التناصّ’ ”Lintertextualit”’ .
ولعلّ مقاربة هذين الوجهين من المهامّ المأمولة في مجال الكتابة الأدبيّة أمر طريف يحتاج إلى النّاقد والنّاقد غير المصرفيّ السّاعي إلى حريف الصّفقةّ دون نفقة. وما الّنّفقة إلا بذل وحذق واثقان يشترك في أدائهما صانع السّرد وناقده. وما الناقد إلا الشّاعر العالم بمفاتن الكلام وقدرة صانعه على التّشكيل الفنّي ليبني للقارئ بيت ألفاظ وتراكيب ووضع في حالة حبكة تأسر لتفتن فتحرّر وتحرّر.وبيوت الفتنة في الأدب نادرة إذ غالبا ما يحجبها الولع الشّديد بالمعنى أو الّتّيمة وما إليها من بارقة إشهار الفكرة ونشر الايدولوجيا. إذ يكون العلوق بما وراء العلامة وما يتيحه من اختزال الأفكار الممكنة وتكريسها تكريسا صارما بأساليب البلاغة ومؤثّرات الصّوت والصّورة فتنشا قيم نقدية توجّهها مقاييس من خارج لعبة الشكل لاسيما في السّرد ليصبح مقياس التميّزأو التّفرّد الشكليّ مغيّبا فتصبح أدبيّة الإبداع صنيعة الفكرة المركوزة في الذّهن لا المُبتكرة من تجربة العلامة وتموضعها تموضع تناصّ مع كيفيّات أخرى تتلوّن بتلوّن أنماط التّعبير الفني في الكتابات الأدبيّة من أقصوصة ورواية وما بعد رواية. فبالكيفية تتمايز الأعمال لا بالموضوع أو التيمة والتيمة البكر ينحتها تركيب علاماتيا بكيفية بكر في حالة تفجّر الظّفر المستحيل بنشوة الكتابة ومتعتها اللاّ محدودة.هذه البيوت من وسم تقدّ من لغة تشبه بيوت السّكن وليست للسّكن أو القرار هي كلمة أو جملة أو هندسة أو وضع في حالة حبكة أو فراغ ، يقتضي حذق الصّنعة و جاذبيّة الإغراء مما يجعل هذه البيوت اللّفظية فواتن كلام مقدودة بتدبير نوعيّ وشاعريّة متناصّة.
والكيفية البكر أو المَرِدة البكر ميزة بل خصلة تُستنبط نفحة من الوقوف على سرّ من أسرار نظم الكلام وبلاغة تشذيبه وتنقيحه وإعادة صوغه الصّوغ المُنحرف أو المُمْتسخ ، فيطرب طرب المفاجأة بغير المُنتظر أو يلطف بلطف الاهتداء إلى المغيّب فينا بفعل المترسّب المبتذل من القوالب والأساليب الجاهزة. والتّيمة البكر مروحة لغويّة تحيا في الأدب العربي قديمه وحديثه منذ الشعر الجاهلي إلى يومنا هذا مع اختلاف صيغ التّعبير عنها مرورا بعيون النّثر والشّعر في الأدب العربي ، ونماذجه شعراء الجاهليّة و التّجديد أمثال طرفة بن العبد و بشّار وأبي نُواس وأبي تمّام وغيرهم من الشعراء المَردة كأبي العلاء المعرّي والمتنبّي والشّابّي والسّياب وغيرهم من الشعراء المعاصرين المحدثين و ناثرون من مردة السرد الفنّي بدءا من ابن المقفع في كليلة ودمنة والهمذاني في المقامات والجاحظ في البخلاء والمعرّي في رسالة الغفران. الاّ أنّ البحث عن عيّنات من الكيفيّات البكر يحتاج إلى مباشرة نصوص من المدوّنة المذكورة بإضمار هذه الخلفيّة النقدية وان كان المجال الآن هنا لايسع لتناولها كلها لذا يكفي أن ننظر في في بعض النصوص بهذه الذائقة الأدبيّة لنقف على أمثلة من ضروب التناصّ ثمرة تقارب وتنافر بين مكوّنات دلاليّة عديدة تجمع في الغالب بين شوق الشعر وإمتاع النثر .
والهدف من هذا النشاط إن لم يكن محددا فله مدخلان احدهما أدبي والآخر إيديولوجي إذ أمام ناظم الكلام مُهمّتان مهمة ترويض أو ممارسة رياضة قوليّه باللّعب على إمكانات الفتنة في اللغة لتسريب فكرة فضح الكذبة أو تعرية عورة التلفيق للاتهام بعقيدة عن طريق اللف والدوران التي تغطي فيها أساليب الخطابة حقيقة الذات الإنسانية القائمة على خراب الطبع فالمشكلة ليست في خراب الطّبع وإنما في الخبر الذي قده خرِبَ ليموّه على نفسه وعلى غيره.فابن القارح مثلا في رسالته إلى المعرّي مجرّد سارد لمدوّنة اِستعارية بدائية هي صدى لذهنية الرواية في مفهومها الفقهي في الحديث والسّنة كما شاعت عند العامّة أو عند العوام كما يقول الجاحظ والعوام هم هده الطبقة التي تكتفي بالنّقل أو مناصرة ما يصلهم من المحدثين دون أن يكونوا محدثين أو يسكنهم طبع السّارد المارد.هؤلاء كثيرون صالوا وجالوا تحت زيف أقنعة النقد المبشّر بغلمة حبّ الشهرة والتسلط الأكاديميّ إلا أنّهم سرْعان ما ارتدّوا كاسفين متذرّعين بخصوصية الشعرية العربيّة ولا نثريّة عربيّة عندهم تتجاوز السّّقف وتتمرّد نحو اللغو أو الفوضى ولم يدروا أنّهم لايدرون أن الشّعرية كالنّثريّة كاللّغويّة أو شعريّة اللغو ليست سوى مفاهيم ممكنة لها الحق الطّبيعي في أن تنشأ وتنموَ وتتلاقح بغيرها فالميّت منها ينقرض أو يتحوّل ،والحيّ يُمتسخ ويستحيل بعدوى الموت مفاهيم أخرى مستقبليّة قدْ لاتخطر على بالنا الآن ألهُنا.لذا فانّ محاولاتي في مقاربة النصوص لاتخلو من هذا الولع الكامن فيّ جسدا علاماتيّا بالسّارد المارد.
* ناقد من تونس