الشعر ومديح الخسارات

الشعر ومديح الخسارات

الشعر ومديح الخسارات

ثمة قراءات، تميل إلى تعليل حضور الزمن التأملي، الذي يحدث أن يتخلل بجمالية صمته نصوصا كانت في سياق سابق، قد استمدت مشروعيتها التاريخية من ذاكرتها التمردية، على أرضية اعتباره مؤشرا لانتكاسات شعرية.
وهو تعليل يُعرِّض المتن الشعري المعنِيَّ بالمساءلة، إلى رعونة الحذف والبتر، ذلك أننا، وحتى في حالة تجاوزنا للخصوصية الفكرية والتاريخية، التي قد تكون ربما وسمت النصوص المكتوبة خلال فترات المخاضات الكبرى، فإننا على الأقل، سوف نعتمدها لا محالة، في إضاءتنا لخصوصية التجربة العامة التي تميز بها هذا المسار الشعري، كما أنها تسمح لنا بالتعرف إلى طبيعة الأسئلة، التي ساهمت في هيكلة مختبره.
إن العبرة هنا، تتمثل في القيمة المضافة التي تحققت في المراحل التالية لمرحلة الممانعة الفكرية/الأيديولوجية، التي يمكن أن تكون بمثابة محك نسبي، تتم على ضوئه عملية القراءة الشاملة للمتون الشعرية، ذلك أن البؤس الحقيقي، هو ذلك المتمثل في مراوحة الشاعر لقول ثابت، ولنمط جاهز من أنماط الكتابة، حيث ينعدم حضور ملامح أي تطور جمالي وفكري، على امتداد مساره الشعري، بخلاف التجارب التي استفادت من التحولات التاريخية التي خبرتها، وعايشت مختلف مكوناتها الاجتماعية والسياسية والثقافية.
من هنا، يمكن التأكيد على الأهمية القصوى، التي يكتسبها التعدد النظري للمقاربات الشعرية، بما هو اعتراف ضمني بحرية فعل القراءة، الذي يمتلك شرعيته المطلقة في مساءلة ومحاورة النصوص، كلما كان متخلصا من إكراهات الأحكام المسبقة، والانتظارات الجاهزة، المرسومة سلفا، كما أنه اعتراف بتعدد احتمالات القول المتفاعلة في الفضاء النصي، حيث تحضر جمالية الإنصات، بدل الأحكام المفتقرة إلى الشروط الدنيا لدينامية القراءة والتأويل، التي تحيلنا مرجعياتها مباشرة إلى القراءات المستنسخة، الخالية من حرارة الشعر ونبضه، أو بالأحرى تحيلنا إلى قراءات، هي خلاصة إخضاعها القسريّ للتجربة، كي تستجيب ضدا منها، وبشكل مشوه، إلى قوانين المؤثرات المحفورة في التاريخ الشخصي للذات الكاتبة. وضحالة هذا النمط من القراءات تكون أكثر استشراء، بفعل تفشي ظاهرة الكسل الفكري، وبفعل تفاقم الرغبة الاختزالية، في التعامل مع ما هو قيد التأطير والمساءلة، كما أنها تستمد شرعيتها من ظاهرة النوايا المبيتة والمضمرة، التي تتحكم في علاقتها بهوية الشاعر، المستندة غالبا إلى هوسها بتقصي ما يتخلل مساره الشخصي، من علامات، تُعتبرُ في عرفها «تشوهات» و»انحرافات»، حيث يصبح الشاعر من هذا المنطلق الشخص المدان دائما، والجدير بأن يكون الموضوع المركزي، لمختلف أنواع الشكوك، والارتيابات الفكرية، اللغوية، والاجتماعية. إنه ومن وجهة النظر ذاتها، الكائن الخطاء بامتياز، الذي ليس لأحد أن يثق بتهويماته. إنه علاوة على ذلك، ليس فقط المطالب بالصمت، ولكن أيضا المطالب بالتبرؤ من هذيانية خطاباته، وشطحاتها.
ذلك هو التحريف التام لوظيفة الشعر والشعراء، الذين هم «في كل واد يهيمون»، كما هو التحريف المستند إلى الوصايا الصارمة، الصادرة عن كل من السلط المتعالية والأرضية المتنكرة لحضور أي هاجس تفكيكي، يمكن أن يقترب من مضاربها. هذا التحريف، قد يجد ضالته في تلك المماحكات القاسية، التي لا يتورع الأنا الشعري في إخضاع ذاته إليها، ضمن سياق إشاراته المنفتحة لما يحدث أن يتعرض إليه من إخفاقات وجودية، وهي إشارات لا تخص ذاته بالضرورة، بقدر ما تعم ارتطاماته العنيفة والنموذجية بحواجز الكينونة، بحكم توتر العلاقة القائمة عموما بين الكائن، وبين مجموع الإكراهات التاريخية، المؤثرة سلبا في تحجيم فضاء حرية القول، والتأمل، وطرح السؤال، وبالنظر إلى ما تعانيه هذه القراءات من قصور معرفي، يحول دون استيعابها للدلالات الفكرية والشعرية، فإنها توظف رؤيتها التقليدية لها، في تصعيد عدوانيتها على ذات الشاعر، كما على منجزه الشعري، علما بأن حضور الرؤية السلبية للعالم، يندرج ضمن سياق تمجيده للخسارات، التي يمكن اعتبارها الظاهرة الأكثر حضورا في نصوص الحداثة، باعتبارها ثيمة مركزية، تغري الكتابة بجمالية شعريتها، كرد فعل مُذلٍ منها، على غطرسة هالات الأمجاد والانتصارات، التي تعودت على تطويق العالم بدمائها وصديدها.
إن جمالية تمجيد الخسارات، فضلا عن كونها تصيب القوى المتسلطة بحالة مزمنة من الرعب، وتفقدها ثقتها في ما هي بصدد مراكمته من أوهام هيمنية واستبدادية، فإنها إلى جانب ذلك، تفتح مسالك جديدة في القول الشعري، محدثة تشققات مهولة، في البناء الشعري التقليدي، الذي دأب على إضفاء هالة القداسة المتعالية والمثالية، على كل ما تهجس به الذات من أحلام وتطلعات وردية، حيث يمكن من هذا المنظور، تأطير الخسارة، باعتبارها ترجمة لذلك التحفظ الوجودي، الذي أمسى يخالج الكائن في علاقته بمختلف أنواع المتعاليات، كشكل، من أشكال التمرد الضمني على كافة النصوص الأصلية، التي تلح على التحكم في آلية اشتغال جسده، بما هو طاقة مدركة ومفكرة، ومبدعة.
والحديث عن التحفظ الوجودي لدى تجربة الخسارات، يضعنا في قلب اهتمامها بلعبة التَّخلُّقات المضادة، التي تتشكل بها هوية الأشياء والكائنات، ذلك أن شعرية الخسارة، تسمح بإعادة ترتيب عناصر الكون، وفق قوانينها المختلفة تماما عن قوانين الفوز والتملك، من دون أن يكون ثمة بالضرورة أي تضخيم مجَّانِيٍّ لحالة الفقد، الذي تعتمده النصوص التقليدية في منهجية استمالتها البائسة لعطف القراءة وإشفاقها، لأن الفقد في السياق الذي نحن بصدده، يتخذ منحى خلاَّقا، شبيها بذلك الضوء الخافت، الذي تكشف به الكتابة عن تحولات الجثة، ليس من أجل رثائها، بل فقط، من أجل الكشف عن طبيعة الإيقاعات المقيمة خلف زمن الجسد، وخلف زمن الروح، أي خلف زمن الإشباع، مسترسلا كان، أو متقطعا، مقدسا كان أو مدنسا، مادامت شعرية الخسارة/الفقد، لا تفصل أبدا بين الأبيضين أو الأسودين. وهي الأزمنة التي تتعقبها الكتابة، بوصفها علامات هيروغليفية مغلقة على أسرارها، وذلك بالنظر إلى وجودها في قلب اللعنة، في قلب التطَيُّر العالي، وفي قلب أي نَحْس محتمل يتحول بحضور الكتابة، إلى أطاييب لذيذة على مائدتها، وبتجرد تام وكامل عن أي بؤس مازوشي أو سكيزوفريني. لأن التموضع الإرادي في عمق الكارثة، هو الصيغة الملائمة لإجهاض ما تعصف به من تداعيات، وأيضا الصيغة الملائمة لتحويلها إلى مجرد علامات مبطنةٍ بمُسلَّمةِ ما «لم يعُدْ مصدر تهديد» وخوف، بل على النقيض من ذلك، حولت جمالية الخسارة هذا التهديد إلى موضوع مطاردة وتعقب شبق، من قِبل الكتابة، ضدا من وجع الفقد. هذه المطاردة، هي التي ستصبح معها العلامة، مجَرَّةً كاملة من البنيات المضيئة بجديد دلالاتها، هناك، حيث تعيش اللغة متعة حيرتها الكبرى، الناتجة عن فرحها بتعذر تطويقها للماء، للهواء، للدلالة، ولذاتها أيضا.
إن شعرية الخسارات، تجدد تساؤلاتنا حول دلالة «أن تكون محفوفا بما تشتهي»، وحول دلالة «أن تكون عاريا في صحراء الجليد»، كما أنها تتيح لنا إمكانية فتح أكثر من حوار نِدِّيٍّ مع المتعاليات، حول أسرار تدبير هذا الكون، بما يُوَسِّع من قُطر دائرة الرؤية، ودائرة القول، في شأن الحرب الدائمة، الطاحنة والضروس، القائمة تباعا ضد أعداء شعرية الحياة. كما يوسع من قُطْر دائرة الحوار/الجدل، القائم بين الذات وبين الآخر/ين، حول إشكاليات ضبط مفارقات الكسب والخسارة، وتداعيات التواجدات القاسية بين الظلمة والضوء، ونشوةِ أن تبوح أكثر، بما لم تكن لك طاقة من قبلُ بمعاينته، حيث لا مناص من المجاهرة بعنف تلك الثنائيات المتوحشة التي تفتك بجسد الكائن، وبضراوة ما تعانيه الكينونة من مفارقاتهما. هكذا إذن تصبح لعبة استحضار الخسارة، مقابلا موضوعيا لاستحضار ذلك الرهان الصعب، المتمثل في صياغة خطاب مغاير، تسري برودةُ زرقتِه في أوصال الرغبة، وفي أوصال الكون، بعيدا عن التفريط في رهانات الجسد على إنصاته إلى لغات أجساده، وقد تحررت تماما من رهبوت الفوز، الذي ينقلب تبعا لذلك على ذاته، فيأتيك بترياق كتابةٍ، هي ألذُّ ما تشتهيه الحروف، ذلك أن التلقي التام، والمنفتح على قوانين الخسارة، يتحول إلى مصدر فِعلِيٍّ من مصادر استعادة فتنة الإنصات إلى لغات الجسد، مرئية في عِزِّ انحداراتها العالية، بما هي إنصات إلى لغات ليالي الكون ونهاراته، حيث ما من خيط يفصل بين الأسودين، وأيضا، بما هي دعوة لصرف أنظارنا عن عرش الوجود، الذي تصدر عنه أوامرُ مَحْوِنا، وعْياً منا بأن شعرية الخسارة، هي وحدها المؤهلة لوضع وجودنا فوق مكانة الوجود، وتنزيل تعالينا فوق تعاليه.
تلك هي بعض مظاهر السلط التي تتمتع بها إرادة الكتابة في ممارستها لفعل التحويل، ولِمَا ينبني على جمالياته من انتقالات، تفضي إلى إبداعِ جديدِ سياقاتها، مؤكدة بأن أخطر وأجمل ما يمكن أن تقدمه لك شعرية الخسارة، هي غيابك عمَّا هُمْ فيه، وحضورك في ما هُمْ عنه غائبون.
شاعر وكاتب من المغرب

m2pack.biz