الشيخ «الإصلاحي» والشاب «المحافظ».. انقلاب المعادلة في الشرق الأوسط
في بداية العام الفائت 2016 نشرت دار جداول كتاب «ما بعد الإسلاموية: الأوجه المتغيرة للإسلام السياسي» الذي أشرف على تحريره السوسيولوجي الإيراني آصف بيات. وكان الكتاب قد نشر بالإنكليزية في بدايات 2013 عن جامعة أكسفورد. وقد بقي بيات مصراً من خلاله على نظريته السابقة التي طرحها في عام 1995 حول ما بعد الإسلاموية في المنطقة، التي بشر من خلالها بقدوم «المجتمع ما بعد الإسلاموي» الذي أخذت تظهر ملامحه الأول في المنطقة في إيران في مرحلة ما بعد الخميني، من خلال بعض التوجهات الاجتماعية الجديدة التي بات يبديها الشارع الإيراني على مستوى المقاربات والأفكار والانتهاكات اليومية للقيم السلطوية الإسلامية،، الأمر الذي دفع تيارات داخل الحركة الإسلامية الإيرانية، الى إعادة النظر بسياساتها وخطابها السابق باتجاه خطاب جديد يقطع مع الرؤية التاريخية السابقة، لصالح رؤية أكثر حداثوية. من هنا، بدا، بيات في كتابه الجديد يسعى برفقة مجموعة من الباحثين إلى إعادة واختبار واعتماد مقولة «ما بعد الإسلاموية» كمقولة سوسيولوجية، لدراسة مدى التحولات التي شهدتها الحركات الإسلامية في بعض الدول العربية بعيد الربيع العربي (كما في سوريا ومصر أو لبنان والمغرب) وإلى أي مدى امتد هذا الاتجاه في دول إسلامية أخرى مثل إندونيسيا وباكستان وتركيا. وقد توصل بيات في إحدى الدراسات المنشورة تحت عنوان «مصر والإسلاموية المضطربة» إلى أنه مع نهاية العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، بدا أن مصر طورت جمهورا جديدا ذا توجهات ما بعد إيديولوجية وما بعد إسلاموية، وهو الجمهور ذاته الذي أشعل الثورات. ولذلك كانت الثورة المصرية هي ما بعد إسلاموية، إذ احتلت مطالب الحرية والعدالة والكرامة مكانة مركزية. وبناء على ذلك نجده في دراسته هذه بقي يراهن على دور الشباب وأشكال التدين الجديدة وسياسات المرح، لإحداث تغيير إيديولوجي وفكري عميق داخل المجال العام وداخل بنية الجماعات الإسلامية.
بيد أن الجديد فيما يتعلق بالرهان على الصوت الحداثوي والشاب داخل الحركات الإسلاموية، هو ما أخذنا نقرأه مؤخرا في بعض الدراسات التي انشغلت بقراءة مستقبل الحركات الإسلامية بعيد الربيع العربي، على مستوى شكوكها حيال دور الشباب وإمكانية إحداثهم لتحولات إيجابية في ما يتعلق ببنى الحركات الإسلامية ورؤيتها للمشهد الاجتماعي. بل إن ما أخذ يشغل بال هذه الدراسات هو حالة الانزياح التي أخذت تشهدها الأوساط الشبابية داخل الحركات الإسلامية لصالح رؤى أكثر تسلفا وأكثر ميلا للمواجهة والصدام المباشر، وكيفية مواجهة هذه الظاهرة، ولذلك وخلافا لبعض التوجهات والأجندات البحثية التي أشرنا اليها في حالة آصف بيات، أو التي تم العمل عليها في عدد من الكتب والتقارير التي كتبت قبيل الربيع العربي، والتي كثيرا ما كانت تركز على مقولة الشباب ودور الشباب كعامل أساسي في التغيير، وفي مواجهة العنف في المنطقة، كما في كتاب «شباب الشرق الأوسط: جيل يترقب ووعود لا تتحقق» الصادر عن معهد بروكنغز سنة 2009، الذي نعثر فيه على إشارات واضحة إلى أنه بدلا من سياسات الحرب على الإرهاب، فإنه لا بد من، أن يتم تدشين السياسات الأمريكية في المنطقة على أساس من الاحترام المتبادل وتحفيز الاقتصاد ودعم التعليم. بينما نجد في تقرير جديد صادر عن المركز ذاته تحت عنوان «الإسلاموية بعد الربيع العربي: بين الدولة الإسلامية والدولة الوطنية، إعداد شادي حميد وليام مكانتس وراشد دار 2017 «إشارات واضحة الى أنه بعد إخفاقات الربيع العربي بات من الضروري إعادة تقييم النشاط الشبابي بشكل أعمق، لاسيما في ضوء النظر إليهم في السابق بوصفهم الترياق المحتمل لكل داء، بينما الواقع كان أكثر تعقيدا. ووفقا للتقرير فإن أحد المخاطر الأساسية التي أخذت تشهدها الحركات الإسلامية، بات يتمثل في ازدياد حالات الاهتمام والتعاطف من قبل الأجيال الأصغر سنا داخلها مع أهداف «داعش»، ودعواتهم إلى ضرورة الأخذ بسياسات أكثر حزما في مواجهة «الهلال الشيعي» التوسعي.
وبناء على ذلك يوصي التقرير من وجهة نظر أمنية أمريكية (إذ تعطى الأولوية للاستقرار كما يذكر التقرير) الى إعادة تقييم النظر من جديد برؤية الشباب الذين لطالما تم تقييمهم في السابق بوصفهم يمثلون «التيار الإصلاحي» بينما اثبت الواقع وتجربة الربيع العربي ان هؤلاء الشباب هم أكثر هجومية و«ثورية» الآن. ومن هنا نجد وخلافا لتوجهات علماء الاجتماع والسياسة في السنوات الماضية الساعية الى الكشف ودعم، الصوت الحداثوي داخل هذه التيارات، يدعو التقرير إلى إعادة دعم الخطاب الإخواني التقليدي، كون هذا الخطاب قد استطاع في العقود القليلة الماضية تطوير رؤيته تجاه سياسات اللاعنف، وهو ما لعب دورا كبير حال دون التحاق عشرات الشباب أو تأييدهم لبعض العمليات التي جرت في مصر بعيد الانقلاب العسكري، أو حتى على مستوى محدودية تجربة الإخوان المسلمين في سوريا مع العنف المسلح (كما في حال كتائب دروع الشام) وعدم نجاح هذه التجربة الذي يعود برأي التقرير إلى سياسات اللاعنف التي انتهجتها الجماعة خلال العقود الماضية، والتي حالت دون تحول الجماعة إلى ممارسة أساليب باتوا لا يجيدونها.
من هنا يدعو التقرير إلى أن الحل الأمثل اليوم في مواجهة داعش والحركات الجهادية، بات يتمثل في إعادة فسح المجال من جديد أمام الإسلاميين التقليديين (خاصة الإخوان) وفي منح المجموعات المتأثرة بالإسلام حرية التحرك (وهنا يشير إلى أهمية الأخذ بالنموذج المغربي في التعامل مع الإسلاميين) بحيث تطمئن الدولة إلى أن الدين لن يشكل حربة في خاصرة السلطة كنوع من تدابير الثقة. ولعل هذه الدعوة في العودة إلى السياسات القديمة في التعامل مع الإسلاميين والقبول بدور إخواني محدود داخل المجال الاجتماعي والسياسي للبلدان العربية، وبدور جديد للإخوان المسلمين كتيار قادر على مواجهة التيارات المتطرفة في المنطقة، هو ما نعثر عليه في دراسة مارك لينش التي نشرها أيضا قبيل أسابيع قليلة في مركز كارنيغي تحت عنوان «أفاق مجهولة: الأحزاب الإسلامية ما بعد جماعة الإخوان المسلمين»، إذ لا يبتعد لينش في هذه الدراسة كثيرا عن الطرح السابق من خلال تأكيده على أن الحاجة الملحة والعاجلة لمقارعة جاذبية الدولة الإسلامية، قد تشكل حافزا وفرصة جديدة للتيارات الإسلامية كي تطرح نفسها مجددا كحواجز مفيدة في وجه الحركات المتطرفة. ووفقا للينش، فإن ما يميز الحركة الإسلامية التقليدية هو أن الحركة اعتمدت على هرمية جامدة لنقل التعليمات من القيادة إلى القاعدة، وهو ما سمح للتنظيم بإبراز وتيرة مرتفعة للغاية من تلقين وترسيخ العقائد والإشراف والانضباط الداخلي. ولذلك نجد هنا تأكيدا على أن فكرة ما بعد الإسلاموية القائمة على إجراء تحولات تنظيمية داخل الجماعة، بالإضافة إلى التحولات الفكرية ما عادت مغرية، كما في السابق، في ظل الحاجة اليوم إلى بناء حواجز ضد التطرف، وفي ظل تبيان مدى نجاعة سياسات الإخوان السابقة في الحد من ظاهرة حدوث انشقاقات داخل الجماعة، والالتزام بحالة من الضبط التنظيمي، حتى لو كان هذا الأمر على حساب سياسات التحرر التي لطالما سعت إليها بعض الأوساط الشابة داخل الجماعات الإسلامية التقليدية.
كاتب سوري
الشيخ «الإصلاحي» والشاب «المحافظ»: انقلاب المعادلة في الشرق الأوسط
محمد تركي الربيعو