الصّورة منتوفة الأطراف جمعت ما استطاعت من قوّة لتقف
صرير الحديد ورتابة صوت المترو يدفعها لتقف مسرعة رغم الوهن الذي يصيب مفاصلها كلّ صباح. حافية، نزلت من فراشها الذي لا يشاركها فيه أحد سوى الصّورة منتوفة الأطراف. سحبتها من تحت حمّالة صدرها. مسحت على الخدّين الصّغيرين دون أن تنسى المرور على الانف الطّويل المنتصب. ضغطته بين أصابعها بعنف تحوّل إلى صرير بين أسنانها.
الرّجال يجهلون دوما أنهم يتصرّفون كالصبية الصّغار. كلّ تصرفاتهم متوقعة كليا لذلك كانت المرأة دوما أمّا قبل كل شيء.
وضعت الصّورة بين ثدييها وحضنتها بحنان. لكن كيف تحضن أنفا رفض دوما أن ينظر أسفل من جبينها؟ سترغمه هكذا على البقاء بين ثدييها وعلى النّظر دوما إلى اللّون البنيّ لحلمتيها.
فكّرت ‘سارة’ أنّ ما جعلها تقفز من الفراش وتحضن الصّورة وتلصقها بصدرها ليس صوت المترو ولا نسمات الفجر. تعوّدت صوت المترو بعد معاناة الأشهر الأولى. كانت تنهض وتغلق كلّ النوافذ. تضع رأسها تحت الوسادة مطبقة أسنانها وحواجبها إصرارا. لم تجد حلا سوى وضع شريط لاصق على فم المترو أو زرّ صغير في الفضاء تضغطه فيعّم السكون.
هذا الزرّ الصّغير هو مجازها الذي اجترحته منذ يومها الأوّل في هذا البيت المتحرّك. أسعدها ان تجد مخرجا في مجاز بسيط تستعيد فيه طفولتها. إجابات بسيطة وحلول حلزونيّة لما يزعجها. فقط من أجل بعض السّكون تستنجد به. لحظات من السكينة وسط رتابة صرير الحديد ونعيق السيّارات، كمن يستنجد بحبيبه وسط حافلة غاصّة بالعيون.
فكرة الإستنجاد بحبيبها أعادتها إلى سبب قفزتها من الفراش. إنّه حلم جمعها ‘ جابر ‘ وسط مبان قصيرة تحيطهم كمتاهة. لكن رغم الظّلام كانت ترى بوضوح كلّ تفاصيله خاصّة شفاهه الرّطبة. شفاه تتحوّل إلى لعاب قطر فوق جبينها وأنفها. البيوت القصيرة تغصّ بالعيون التي تلمع مكرا. حاولت الإفلات لكن الشوّارع كانت تضيق وتغصّ بالعيون واللّعاب. عيون أصدقاء قدامى وعيون جديدة لم تعرفها.
تذكّرت حلمها فغمرتها قشعريرة انتصب لها كلّ شعر جسدها. أحسّت ألما أسفل معدتها. التّداخل الغريب في الزّمن والأماكن ولّد لديها نفورا غريبا. اللّعاب على شفاه ‘جابر’ كاد يخنقها.
سحبت الصّورة المنتوفة الأطراف من حضنها وتأمّلتها من جديد. هي كلّ ما تبقى من ‘جابر’ يوم التقته وسط الجموع الهادرة غضبا من الاغتيال.
ذلك اليوم لم يتّسع لهم باب محطّة الحافلات، حاصرتهم الغازات المسيلة للدّموع والنيرات المشتعلة في السيارات على طول محيط المقبرة. لم يتّسع لهم الباب سوى وقوفا فكانا متلاصقين. ما تبقى لديها من قنينة ‘ الكوكا كولا ‘ كان كافيا لغسل وجهيهما وتهدئة العيون المشتعلة ألما. ورغم الخوف نزعا ما استطاعا من ملابس تعيق التحامهما.
تساءلت سارة من جديد هل نواجه الموت بالحب فقط؟
* * * *
كان ذلك في بداية فيفري. السّماء على أهبة المطر. تجاوز ‘جابر’ محطّة الحافلات بعد أن ترك هاتفه. دفعه ثمنا لينجو بحياته من مجموعة لا يعنيها الاغتيال بقدر تحصيل قوت يومها. تفقّد حافظة أوراقه قبل أن يرميها حتى لا تشكّل له تهديدا جديدا. انتبه لغياب تلك الصّورة منتوفة الأطراف التي احتفظ بها دون سبب واضح. لقد سلّمها لامرأة لم يعرف حتّى اسمها.
التقاها تائهة وسط القبور فأخذ بيدها وعبر بها بين السيارات المحترقة والغازات المسيلة للدّموع. كانت ترتعش وصوتها متقّطع من أثر الصّراخ والسّعال المتواصل. نحيفة وتعرج في مشيتها بعد أن فقدت كعب حذائها. التقت عيناهما فتقدّم منها وأمسك يدها. أحسّها تقترب حتّى تكاد ترتمي في حضنه.
تساءل: هل نواجه الموت بالخوف والصّراخ؟
عينيها كانتا تشعّان رغم الحمرة الطّاغية. لم يتمكّن ‘جابر’ من تبادل حديث طويل معها. قادتهما الجموع الهادرة نحو محطّة الحافلات حيث احتميا بالباب.
أشعّة الشّمس المستقيمة بدّدت برد الصّباح. ارتفعت الضّجة خارجا. طوت ‘ سارة ‘ زرّها المجازيّ ووضعته في جيبها. قد تحتاجه لتواصل يوما جديدا وسط الضّجة. أمّا الصورة منتوفة الأطراف فهي لا تغادر مكانها تحت حمّالة صدرها.
بحثت عن نفس ألوان ذلك اليوم في المقبرة ونفس التّسريحة لكنّ العطر غير مهم فحتى هي لا تذكره وسط ذلك الدّخان والعرق.
أوّل خطواتها في الشّارع اعترضتها أمواج هادرة جديدة تطرح بعد أشهر نفس الأسئلة. لم تعد طرح الأسئلة. سحبت الصورة منتوفة الأطراف ونظرت بعينين لامعتين إلى الأنف المنتصب. سحبت زرّها المجازيّ فعمّ الصّمت.
*قاص من تونس
Hajbi.halim2000@gmail.com