العوامل البعيدة المشكلة لعقائد الجماهير وآرائها
انتهينا للتو من دراسة التكوين الذهني للجماهير. وأصبحنا نعرف أساليبها في الإحساس، والتفكير، والمحاجّة. لندرس الآن إذن كيف تولد آراؤها وعقائدها وكيف تترسخ في النفوس.
إن العوامل التي تحدد آراء الجماهير وعقائدها ذات نوعين: عوامل بعيدة وعوامل قريبة (أو مباشرة).
فالعوامل البعيدة تجعل الجماهير قادرة على تبني بعض القناعات وغير مؤهلة لتبني قناعات أخرى. فهذه العوامل تمهد الأرضية لتبرعم وانبثاق الأفكار الجديدة التي تدهشنا بقوتها ونتائجها. ولكن عفوية انبثاقها ليست إلا شيئًا سطحيًّا وظاهريًّا. فانفجار بعض الأفكار وتبلورها لدى الجماهير يشكل أحيانًا مباغتة صاعقة. ولكن ذلك ليس إلا أثرًا سطحيًّا يخبئ وراءه عادة عملًا طويلًا وبطيئًا سابقًا.
وأما العوامل المباشرة فهي تلك التي إذا ما تراكبت على ذلك العمل التمهيدي الطويل الذي لا يمكنها أن تفعل فعلها بدونه، أثارت الاقتناع الفعال لدى الجماهير. نقصد بذلك أنها تبلور الفكرة وتخلع عليها هيئتها ثم تجيشها وتهيجها بكل نتائجها وانعكاساتها. وتحت ضغط هذه العوامل المباشرة تنبثق القرارات التي تحرك الجماعات البشرية فجأة. فهي التي تؤدي إلى انفجار تمرد شعبي ما أو شن إضراب ما. وهي التي تدفع أغلبية كبيرة من الشعب إلى الوصول بشخص ما إلى سدة السلطة، أو إسقاط حكومة معينة.
وفي كل الأحداث الكبرى للتاريخ نلاحظ وجود التأثير المتتالي لهذين النوعين من العوامل. فإذا ما ضربنا مثلًا الثورة الفرنسية التي تشكل أحد أهم الأمثلة وأكثرها إثارة، وجدنا أن من بين عواملها البعيدة نقد الكتاب والمفكرين للنظام القديم، ثم ابتزاز هذه النظام القديم وتجاوزاته. وهكذا تمت تهيئة روح الجماهير للثورة واستطاعوا تجييشها فيما بعد بواسطة عوامل مباشرة كخطابات الخطباء مثلًا ومقاومة البلاط الملكي لإجراء إصلاحات زهيدة لم تعد ذات معنى.
ومن بين العوامل البعيدة هناك عوامل عامة نجدها في أعماق كل عقائد الجماهير وآرائها: كالعرق مثلًا، والتقاليد الموروثة، والزمن، والمؤسسات، والتربية والتعليم. وسوف ندرس فيما يلي دور كل منها على التوالي.