المتخيل القصصي

المتخيل القصصي

المتخيل القصصي

(1) أعني ب«المتخيل القصصي»ملكة الإبداع الجمالي، إن الأمر يتعلق بوظيفة أساسٍ لهذه الملكة، وهي ابتكار عالم مخصوص بها، في قصص بعينها من داخل المجموعة القصصية الواحدة، وفي كل قصص المجموعة، كما يظهر من تلك «الصفات» التي نضيفها إلى المتخيل، كمتخيل «الحياة التقليدية»، أو «الحياة الواقعية»، أو «الحياة الفانتاستيكية»، أو «الحياة السريالية»وغيرها من الحيوات المتجاورة أو المتباعدة.. كما نجد في إبداع رواد هذا الفن الأدبي الفريد غربا وشرقا.
(2) تمكننا الظاهراتية من فهم الطريقة التي يبني بها الإنسان علاقته بالعالم، هذه الطريقة لها أشكال من التشخيص، إنْ في العالم الموضوعي المعطى في ما يسمى الواقع الخارجي، أو الواقع الداخلي الذي يعيشه الأفراد ويعانونه إما بوعيهم الظاهر، أو بوعيهم الضمني، على أن الأهم في كل هذا هو أن الإبداع الجمالي يحدد هذه الطريقة في العيش بملكة دقيقة حساسة جدا هي ملكة المتخيل، الذي يتجلى في ذاك العالم القائم بذاته الذي نعيشه كقراء وكَكُتاب، ونحن نرى أمامنا حياة تجري، وأشخاصا يحيون وآخرين يموتون، ومن هذا أو ذاك من مقاصد الحياة الكبرى، ذات القيمة الإنسانية، الدالة على عظمة الإنسان الخالق المبدع، أو ضحالته وهو يحطم عظمته بأخس وأفدح المسالك التي يسلكها في عيش الحياة، أي في الطريقة التي يمارس بها الحياة.
(3) إن العالم الذي نحياه، مهما بدا واحداً فهو متعدد، بتعدد إدراكنا التأويلي لطريقة عيش الإنسان في هذا العالم، وبما أن هذا الإدراك مشرَعُ على اللانهاية، فكذلك عوالم المتخيل لانهائية. وكأن الإنسان وهو يرى الموت يترصده، يدرك في أعماقه، أن عالما آخر- بمعنى حياة أخرى – ينتظره، ولا يشبع القاصون من ابتكار هذه العوالم والإكثار منها، اعتمادا على الخيال والمخيلة والتخييل، وهو ما يجعلنا نجد، في النهاية، بل وندرك، أن هذا القاص أو ذاك يبتكر متخيلا خاصا به، هو في الآن عينه عالم لربما من أسوأ العوالم أو أفضلها، وإن كان جميع الكتاب – على الإطلاق- ممن يستحقون هذه التسمية يتطلعون إلى أفضل العوالم، حتى وهم يصورون ويخلقون متخيلا يحكي عن قسوة الحياة أو رداءتها أو عنفها أو ما شابه ذلك.
(4) لا أتحدث عن عوالم المتخيل بالمعنى السلبي الذي يراه هنري كوربان في كتابه «الخيال الخلاق عند ابن عربي»، بل إني أهتم بالعوالم المتخيلة باعتبارها أنساقا قائمة من التفكير والإبداع والحساسية، وإن القارئ مدعو للنظر فيها من أجل الفهم والتذوق والاستمتاع، بل أيضا من أجل تمثل حياة ممكنة يستطيع أن يحياها إما بمحاكاة متخيل عالم قصصي ما، أو باسترفاده في ممارسة الحياة، فأي فائدة للقصة القصيرة إن لم تكن هي فائدة تمثيل الواقع بمتخيل غني وجذاب يخلق صنوفا من العوالم يستزيد منها القارئ كلما أوغل في القراءة وأدمن عليها، خاصة إذا كانت حبكات متخيل العوالم القصصية غنية وباذخة بثراء المعنى أو الدلالة التي يستشفها القارئ بإدراكه التأويلي.
(5) إن أهم ما يصنعه المتخيل القصصي أنه يقترح عالما جديدا للحياة، عالما مسرودا بطرائق السرد التقليدية أو الحداثية، لكن أهم ما يصنعه هذا المتخيل أنه يصور لنا طريقة من طرائق العيش في العالم وعلاقة الكائنات (الفاعلة) بهذا العالم، على أساس أن العالم المتخيل قد يقترب من الواقع المعتاد وقد ينأى عنه، بحسب درجة قوة المتخيل أو ضعفها، أو بمعنى آخر بدرجة تأثير العالم المتخيل. هذه الدرجة قد تصل بالقارئ إلى الإيمان بالحلم أكثر من الإيمان بما هو معتاد، كما الإيمان بإمكانية وصول الإنسان في كفاحه الحياتي إلى أفضل العوالم الممكنة، وينبغي أن يفهم من «الممكنة» هنا حتى تلك التي لما تزل إلى الآن مجرد يوتوبيا. ولكي يتحقق هذا ينبغي أن نقبل أن ننخدع حتى ونحن نعرف أننا ننخدع، وهل هناك وسيلة أجمل من خداع القارئ من جعل ذلك بوسيلة المتخيل القصصي الذي هو الحياة ذاتها.
(6) إن من يناصر المتخيل القصصي بالشكل الذي أومأنا إليه سابقا، قد يكون كالآخرين عاطفيا، أو عابثا، أو أكثر جدية من غالبيتنا.
إن مناصري واقعية القرن التاسع عشر، كانوا ملزمين بتحديد موقف من متخيل السرود الأدبية التي يقرأونها، إما بالقول عنها إنها حقيقية إذا كانت محاكاة صادقة للواقع ومطابقة له، وإما بوصمها بالزيف إذا كان متخيلها ينأى عن هذا الواقع وينحرف عنه. لم يعد الأمر، في زماننا، قائما على هذه المعادلة. إن المتخيل القصصي يكتسب حقيقته من تلاؤم جمالياته مع طموحات الإنسان المعاصر وتطلعاته وآماله، ولذلك تجد متخيلا ما ينشد إليه القراء بقوة جاذبة متميزة لا بسبب واقعيته، بل بسبب الكشف عن طريقة علاقة الإنسان بالعالم في مظاهر جمالية أكثر جاذبية من كل ما سواها. فتطور الحياة وقدرة الإنسان على السيطرة عليها، يدفع إلى الاعتقاد بأن جماليات القصة القصيرة، هي التي تستميل قارئها بما تتوافر عليه من مقومات الفن ومكوناته ومدى انسجام هذه المقومات والمكونات وتناغمها تناغما كليا فريدا.
(7) إن المتخيل القصصي، ما هو في النهاية إلا تمثيل (خيالي) لحاجات الأفراد ورغباتهم وميولاتهم واستيهاماتهم، بكلمة موجزة ما يرضون عنه وما لا يرضون، ما يتوقون إليه وما يمقتونه، وكأن هذا المتخيل منقذ، يظهر لقارئ القصة القصيرة وجهه النضر الجميل عند الانتهاء من قراءة القصص، وذلك لعدم كفاية العالم الخارجي المعتاد في الممارسة الحياتية على إظهار طريقة علاقتنا بالعالم. إننا نحتاج إلى هذا المتخيل القصصي لنعمق وعينا بالعالم، ولنؤسس لعوالم ممكنة، هي في نظرنا أفضل بكثير من العوالم القائمة.
(8) إن قراءة القصة القصيرة العربية، منذ جيل الرواد إلى جيل بداية الألفية الثالثة، اعتمادا على متخيلها، يوقفنا على حقيقة أدبية نقدية، مفادها أن هذه القصة أبدعها أصحابها من منظورات جمالية متمايزة، ولذلك نجد أن المتخيل القصصي يكشف لنا اهتمامات مبدعي القصة القصيرة العربية، الجمالية. فكل جيل هيمنت على مبدعيه جمالية ما، يشف عنها المتخيل القصصي، الذي يحكي الموضوع الواحد بأشكال تخييلية متنوعة ومتعددة من الرواد إلى الآن.
(9) إذا كان من وظيفة يقوم بها المتخيل فهي جعلنا نستغرق في إعادة تكوين وتشكيل واقع يشبه كثيرا واقعنا، وفي افتراض وجود واقع أفضل من واقعنا، الأمران سيان. إن هذه الوظيفة المزدوجة الأبعاد تولد في اللحظة ذاتها لقراءة المتخيل القصصي أو الاستماع إليه.
(10) لقد صنف نورثروب فراي صيغ الأدب وفقا لطبيعة العوالم والشخصيات التي صورتها (موضوعاتها). وهو التصنيف ذاته الذي يمكننا أن نمارسه في تمييز عوالم المتخيل القصصي العربي، فنحن إذ نتأمل طبيعة العوالم التي يخلقها السرد القصصي وطريقة التصوير التي ينهجها في بناء هذه العوالم، نسمي من ثمة هذا العالم التخييلي بهذه التسمية أو تلك.
(11) الأدب ويداه: يمناه الخيال الذي ينتج ويبتكر، ويسراه المتخيل الذي ينبثق عن الخيال الذي هو الإبداع المنتَجُ بوساطة الخيال، ومن ثمة فالمتخيل منتوج الخيال إبداع جمالي ذو خصائص معينة بحسب هذا المتخيل أو ذاك بتعدد الإنتاجات والابتكارات.
(12) لا يعني متخيل القصة القصيرة العوالم التي تخلقها وتقترحها للقارئ حسبُ، بل أيضا الطريقة التي يقترح بها ذاته بما هو مكون جوهري في جمالية القصة القصيرة.
(13) القصة القصيرة ليست نظاما مكتملا مكتفيا بعناصره وأدواته، بحيث يؤلف بنية مغلقة، بل هو طاقة متجددة، لا توجد إلا في انفتاحها على متخيل ثر مفعم بالمعاني والدلالات والإيحاءات، فهو يتوالد باستمرار، ولكونه كذلك يتخذ عند كل كاتب طابعا متميزا في كل مجموعة قصصية وأحيانا في كل قصة قصيرة.
كاتب مغربي
عبداللطيف الزكري

m2pack.biz