المثقفون الطبّالون مجرمو السلم
التطبيل مفردة صارت تحتل موقعها المتقدم في الحياة العربية، وهي بالمعنى الثقافي تقود مباشرة إلى رذيلة النفاق، وتعني من الوجهة الاصطلاحية التملُّق والتقرب من ذوي الجاه والسلطة، من خلال العبارات الزائفة المرصوفة بمكر لغوي، حيث تكشف عن قدرة المُطّبل على بيع رأسماله الرمزي، وذلك بتضخيم التافه، وتزيين القبيح، وتقريب البعيد وهكذا، وهي مهنة أولئك الذين يجدون لهم مكاناً في لحظات الازدهار الثقافي ليصيبهم بعض فتات الوفرة المادية، ولذلك لم يكن جون بول سارتر مبالغاً عندما سماهم مجرمي السلم، حيث لا تختص ظاهرة التطبيل بمجتمع بعينه، بل تشمل كل المجتمعات، إلا أن المفارقة تبدو على درجة من الوضوح عند الأزمات، إذ يفترض أن يكون التطبيل داخل علاقة عكسية عند انحسار الثروات وتدهور الحالة المعاشية للناس، وظهور ذلك الأثر بشكل واضح على المستوى الثقافي، إلا أن الملاحظ هو ارتفاع منسوب التطبيل في تلك المنعطفات، في الوقت الذي يفترض أن يعبر فيه المثقفون عن سخطهم وتبرمهم وعدم رضاهم عن واقعهم وما يهدد مستقبلهم ومستقبل الناس الذين ينتمون إليهم.
كل المجتمعات تتعرض لأزمات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية تحتم عليها قراءة الأسباب التي أدت إلى تلك المعضلة، وتفرض على الجميع الإسهام في طرح الحلول المناسبة، كما تدفع بشكل إجباري إلى ترشيد الإنفاق على المستوى الحكومي والفردي ومراجعة السياسات الاقتصادية والأوضاع الاجتماعية والطروحات الثقافية، وهذا دليل عافية وإحساس بالمسؤولية قبالة اللحظات التاريخية الحرجة، حيث يمكن لأي مثقف أن يتفهم منشأ الأزمة بعواملها الخارجية والداخلية، كما يستوعب مختلف الإجراءات التي تلجأ إليها الدولة لتقليل المخاطر والحفاظ على كرامة المواطن، وبالتالي يمكن تقبّل فكرة المراجعة، إلا أن الملاحظ في ظل تلك الأجواء المعتكرة لجوء فئة من المثقفين الطبّالين إلى رفع مستوى التطبيل بشكل استفزازي، من دون مراعاة للضائقة المعاشية التي تضغط على الناس، ولا انتباه لما يعانيه الناس من تقييد للحريات، واضمحلال الأفكار الصالحة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، في الوقت الذي يُفترض فيه ترشيد التطبيل حتى لا ينتفض المتضررون من ضياع بوصلة الإنفاق الحكومي وغياب التوجهات الثقافية الكفيلة بحل الأزمة.
مفردة التطبيل لا مكان لها في المنابر الإعلامية الرسمية، فهي نتاج ثقافة خطاب الظل، ومنشأها وموقع رنينها يكاد ينحصر في مواقع التواصل الاجتماعي، لأنها أداة المقهورين ضد أولئك الذي يشيدون بكل ما تؤديه المؤسسة ويطبّلون في كل الأحوال والمناسبات، في الرفاه والشدّة، ولا ينظرون إلى شركائهم في الوطن إلا من منظور رفاهيتهم وامتيازاتهم الشخصية، باعتبارهم أركان ثقافة المؤسسة، وربما لم تُحدث الأزمات بكافة أشكالها أي أثر يُذكر في مكاسبهم المادية ومواقعم الاجتماعية، وهذا هو بالتحديد ما يجعلهم أعداء لقدسية الحياة الإنسانية، فهم منذورون لتصعيد حفلات التطبيل، ومطالبة الناس بتفهّم ما لا يمكن فهمه، والصبر على قضاء صنعته سياسات خاطئة، وكأن الكلام التطبيلي الفائض هو الحل الأمثل عوضاً عن الحلول الممكنة على أرض الواقع، فالمثقف المطبّل ليس على تلك الدرجة من الجهل والسذاجة ليغفل عن الأسباب والآثار المدمرة للأزمات على المديين: القصير والطويل، ولكنه يتغافل عنها ليرسم لوحة وردية خالية من المنغصات، وتمرير الإجراءات الكسيحة باعتباره أحد خبراء التنظير التنموي، من خلال خطاب خال من أي قيمة فكرية أو أخلاقية.
المثقف المطبّل قد لا يمتلك قوة ومهارة الإقناع، ولكنه يمتلك لساناً منقوعاً في ماء الكذب، ووجهاً أشبه ما يكون بالقناع المضاد لأي نظرة استنكار أو تعجب من الآخرين، وهذا هو ما يمكنّه من الظهور الإعلامي من دون خجل ولا ارتباك ولا تردد، ليبرر ويجمّل ويسوّف، وربما تمادى في الظهور الإعلامي إبان الأزمات، ليبدد أي رأي مضاد، فهذا هو دوره، فهو قائد أوركسترا الزيف الذي يؤلف ويلحن ويغني تراتيل التطبيل بلا تعب ولا ملل، إلى الدرجة التي يمكنه فيها شتم مخالفيه وتسخيف آرائهم، لأنه يشعر بالأمان والحماية مقابل أي فرد أو قوة تدافع عن وجهة نظرها أو حقوقها، وهذا هو ما يفسر استمراء الطبّالين لنوبات التطبيل، وعدم انتباههم إلى ضرورة ترشيد التطبيل، ولو لفترة مؤقتة، أي إلى حين انقضاء الأزمة، لئلا يُستفز من أجبرتهم ظروفهم الاقتصادية على الانحناء، كما يفسر ذلك كراهية الطبالين لأي ملمح من ملامح النقد حيث يرونه حقداً مبطناً واستعراضاً ثفافياً مشبوهاً.
المثقف الطبال ليس مجرد مبرر للفساد، بل هو مثقف خائن لوظيفته الثقافية من منظور جوليان باندا، بالنظر إلى ما يختلقه ويروج له من سياقات معرفية وذوقية زائفة، وبالتالي فهو جزء لا يتجزأ من منظومة الفساد، فهو يعرف الإيقاعات والألحان والكلمات التي تُطرب الفاسدين والمفسدين، ويعرف كيف يوجع المقهورين بعباراته النفاقية، كما يعي جيداً أنه لن تكون له تلك المكانة والكلمة المسموعة ما لم يطرح نفسه كمثقف، أي كعارف بالأفكار والنظريات والمناهج والتوجهات والحال والمآل الاجتماعي والواقع الاقتصادي وهكذا، بمعنى أنه لا بد أن يجيد كافة أنواع التطبيل السياسي والاجتماعي والديني والثقافي، والحديث هنا عن المطبّل المحترف، المطبّل النجم، وليس عن الجوقة، التي تردد ما لا تعي خطورته، أي عن ذلك الصنف من المطّبلين القادرين على منازلة المثقفين الحقيقيين، بل طردهم من الفضاء العام، بحجة أن الحقيقة تظهر في ظل الحرية، وهو يعلم أن شرعنة حضوره مرتبطة بغياب التشريعات الثقافية ذات الطابع الحقوقي، وأنه إنما يمثل ارتجالات المؤسسة وتلفيقاتها الإقصائية لكل من لا يتوافق مع مخططاتها، والرهان هنا على تكثير عدد المثقفين المطبلين لتأكيد سمة الثقافة المهيمنة.
ظاهرة التطبيل محيرة بالفعل، على الرغم من بساطة مظاهرها، فهي حاضرة بقوة وكثافة في كل المجتمعات، وفي مختلف الحقول والنشاطات الإنسانية، حيث يمكن أن يُنظر إليها كوظيفة، أو أسلوب حياة، أو قد تكون مرتبة لا ينالها إلا ذوو العقول والمهارات والحظوظ، فهناك من يتعامل مع التطبيل كمحطة للوصول إلى منصب، على اعتبار أنه فرع من فروع الإعلام، من وجهة نظر أولئك الذين يغلفون كل أفعالهم بلبوسات وطنية، حيث يزعمون أنه إحساس عميق بالمواطنة، وأن حُبّ الوطن يعادل التطبيل لإغاظة الأعداء، مهما أبدى المطبّل من مغالطات ودونية ومخادعات ونفاق، فهو فن المصلحة الشخصية الذي لا يعير أي اهتمام لا للمبادئ ولا للمواقف ولا للقيم، وللأسف هو اليوم من الكثافة بحيث أصبح أحد أهم عناوين الحياة العربية، وهو الأمر الذي يحتم ترشيده لئلا يحدث ذلك الشرخ العميق في المجتمعات، لأن الاستمراء فيه يؤدي إلى انقسامات عمودية حادة، لأن المثقف بحاجة إلى جانب المعرفة العقلانية إلى ضمير وفاعلية وإحساس اجتماعي وانتماء وطني.
كاتب سعودي