المدينة في العالم الإسلامي من المقاربات الاستشراقية إلى الدراسات المعاصرة
خلافاً لعدة كتب سابقة تناولت المدينة والعالم الإسلامي، يتميز كتاب «المدينة في العالم الإسلامي» بمجلديه الأول والثاني (1600 صفحة/مركز دراسات الوحدة العربية) بكونه لا يقتصر على دراسة العوامل التي شكّلت النسيج التاريخي للمدينة في هذا العالم، بل شمل أيضاً دراسة التحولات الحديثة والمعاصرة، التي أصابت هذا النسيج المديني أيضاً. وقد اختار محررو الكتاب سلمي الجيوسي، ريناتا هولد (جامعة بنسلفانيا)، أتيليو بيترو شيولي (باحث إيطالي)، أندريه ريمون (مؤرخ فرنسي) جعل عنوانه «المدينة في العالم الإسلامي»، ليتجنبوا على وجه الخصوص مصطلح «المدينة الإسلامية» الذي لم يعد مطابقاً أو منتجاً على مستوى التحليل. كما أولى المحررون في بداية تقديم مادة الكتاب، اهتماماً خاصاً بفكرة النظر إلى المدينة بوصفها «كائناً عضوياً»، عبر البحث في وظائف وخصائص المدينة في العالم الإسلامي، ماضياً وحاضراً، وكيف ساهمت في صنع ما باتت عليه الآن، بالإضافة إلى تقديم وصف دقيق حول وظائفها مثل، توفير المياه والتواصل والتعليم والإدارة والنظام العام، والأماكن الخاصة، والحياة المدينية، وكيف كانت تؤدى تلك الوظائف.
كما يحاول الكتاب من خلال العديد من الدراسات المنشورة رسم الخطوط الأساسية للنقاش الذي طبع هذه الدراسات حول المدينة الإسلامية التقليدية، بدءاً بالتغيرات في المقاربة وصولاً إلى بنيتها المادية بعد تطور الدراسات الغربية والعربية في الثمانينيات حيال الحيز المكاني. وفي هذا السياق ترى الباحثة جوليا نغليا (أستاذة التصميم المعماري في جامعة باري، إيطاليا) أن أصل الدراسات الاستشراقية حول المدينة في العالم الإسلامي نشأ من اهتمام بمدن شمال إفريقيا، التي تناوب على دراستها منذ عشرينيات القرن العشرين مؤرخون أمثال وليام وجورج مارسيه، وروجيه لوتورنو، ولويس ماسينيون، وروبرت برنشفيغ. وقد وصف هؤلاء المؤرخون المعالم البارزة في المدن الإسلامية وفق وجهات نظر متنوعة: معمارية– مدينية واجتماعية واقتصادية. وعلى الرغم من أنهم اعتمدوا مقاربات وطرقاً مختلفة في دراساتهم، إلا أنهم أجمعوا على فرضية وحدة التمدين الإسلامي. واستناداً إلى المعلومات المحددة التي أتت من بحوثهم في المدن الشمال الإفريقية، صاغوا نموذجاً مدينياً معيناً طبقوه بعد ذلك على المدن العربية الإسلامية، والتركية، والإيرانية. وتحت تأثير أعمال ماكس فيبر وهنري بيرين مال عمل الباحثين إلى إنجاز وصف شمولي لخصائص المدن في العالم الإسلامي، خلافاً للأوصاف التي أنجزت للمدن الأوروبية.
وانطلاقاً من الأفكار حول أهمية الدين في تصنيف النموذج المديني الإسلامي، وفكرة النزاع القائم بين سكان المدن والبدو، وركود المجتمع الإسلامي، افترض الأخوان مارسيه نموذجاً ممثلاً لبنية المدينة الإسلامية يرتكز على وجود المسجد الجامع في قلب المدينة، والسوق المبني بشكل تراتبي، بدءاً من المسجد وصولاً إلى بوابات المدينة والمكتمل بوجود مبان متخصصة فيه، وتقسيم الأحياء المختلفة على أساس جماعات إثنية مختلفة، وغياب أي نوع من التنظيم البلدي.
وفي وقت لاحق، أكد روجيه لورتورنو الرؤية الاستشراقية للأخوان مارسيه، التي ارتكز عليها في نظريته حول البنية المدينية، محدداً المزايا التنظيمية للجمعيات المهنية الإسلامية وواصفاً خصائص المدينة الإسلامية العناصر الرئيسية التي تضم السوق والمسجد والجامع والقلعة وأسوار المدينة، كما لو أنها ظهرت تلقائياً من دون أي مخطط، مقابل الريف، من دون أي تغير طوال ما اعتبره المستشرقون عصوراً وسطى طويلة. من جانب آخر، كان المؤرخ الفرنسي جان سوفاجي يقوم ببحث حول المدن السورية في عام 1934، وقد وصل من خلال مقاله حول مدينة اللاذقية إلى أن البنية المدينية الإسلامية للعديد من المدن السورية تخفي تخطيطاً هيلينياً ذات محور أحادي الاتجاه، وعلى الرغم من أن سوفاجي اقترح خططاً واضحة ومعقولة مهدت لاحقاً إلى استكشافات أثرية ودراسات مدينية، إلا أن مقاربته لدراسة المدينة الإسلامية بقيت استشراقية، كونها بقيت تركز وبشكل أساسي في تفسير معالم المدن السورية وباقي المدن الإسلامية على أنها آثار باقية لمواقع هيلينية وما قبل هيلينية، مع تجاهل شبه كامل لمظاهر المادة الإسلامية في بناء المدينة.
غير أن هذا النموذج حسب – جوليا نغليا- أخذ يخضع لنقد أولي في خمسينيات القرن العشرين حين صحح إدموند باوتي نظريات وليام وجورج ماسي وهنري بيرين حول مدن الشمال إفريقية، بادئاً بالتالي تصنيف للوحدات المدينية المختلفة استناداً إلى عوامل جغرافية واجتماعية وتاريخية. وقد اقترح باوتي التمييز بين المدن المنظمة والأخرى العفوية، مستنتجاً أن الملوك والسلالات هم من أسسوا المدن الإسلامية في أغلب الحالات، بدل ربط كل شيء بالفترة الهيلينية، وبالتالي لم تنشأ هذه المدن من تلقاء نفسها أو أنها تعبر عن تراث مادي سبق الإسلام. سمحت هذه الرؤية للعلماء بتركيز اهتمامهم على ضرورة التطرق إلى التاريخ الفعلي لهذه المدن وإلى شكلها عوضاً عن النماذج النظرية التقليدية. وفي السنوات اللاحقة أخذ بنظريات باوتي كل من ايرا لابيدوس وهارولد باون، فبحثا في السمات البارزة للمدينة الإسلامية، ولا سيما التنظيم الاجتماعي السياسي لسكانها. كما نسب غوستاف غرونباوم بعض العناصر في البنية المدينية – كالشوارع الضيقة والمتعرجة – إلى الطبيعة غير المنظمة والعفوية للمدن الإسلامية وفوضاها الداخلية، إضافة إلى الطبيعة المحمومة للحياة في الحي. لكن رغم هذه المحاولات لتوسيع البحث حول المدينة الإسلامية ومعالجتها من زاوية بنيتها المادية، استمر هذا البحث ولغاية ستينيات القرن العشرين، الحقل الحصري تقريباً للمؤرخين الفرنسيين وعلماء الاجتماع الإنكليز الذين استمروا في دراسة المدن الشمال إفريقية من أجل تحديد نموذج مديني يسري على مدن العالم الإسلامي كافة.
بعد عام 1970 وفي أثر نقد مقاربة البحث حول المدينة الإسلامية، بدأ النقاش – وفقاً للكتاب – يتنوع بفضل مساهمة علماء الجغرافيا والاجتماع والمعماريين الإنكليز والأمريكيين الذين رفضوا النموذج الموحد والمجرد الذي اقتُرِح حتى تلك الفترة. وفي هذا السياق، أخذ بعض الأنثربولوجيين أمثال دايل ايكلمان وكينيث براون نماذج مدينية من تلك التي سبق وحددتها الدراسات الاجتماعية. وقد رأى إيكلمان من خلال تحليله لحي في مدينة أبو الجعد في المغرب أن نظريات ماسينيون ومارسيه غير ملائمة لرسم نموذج نهائي للمدينة الإسلامية، كما رفض نموذج لابيدوس «الفسيفسائي» ونظرياته حول الحي، التي كانت مفيدة فقط لوصف النماذج الاجتماعية أكثر منها النماذج المدينية في الحي، والبنية الفكرية لا المادية.
وفي ثمانينيات القرن العشرين، أصبح النقاش حول المدينة الإسلامية أكثر سخونةً، وأدى الإدراك المتزايد لحقيقة أن أي كيان مديني يمتلك هويته المتفردة والمختلفة عن الهويات الأخرى من حيث الظروف الجغرافية والتاريخية، إلى استحالة استخدام تعميمات تتضمن نماذج موحدة. وجاء معظم النقاش والأدلة هذه المرة متعددا وخارج هيمنة الباحثين الإنكليز والفرنسيين، مثل مساهمات بسيم حكيم وجانيت أبو لغد وألبرت حوراني، كما شهدت بروز مشاركات عربية مثل دراسة هشام جعيط عن مدينة الكوفة، التي ساهمت في إغناء الجدال حول بنية المدينة الإسلامية، فمن خلال تحليل دقيق للنصوص المتصلة بمدينة الكوفة الأولى، كشف جعيط الطابع المنظم لطبوغرافية المدينة في المراحل الأولى للتطور الأنثروبولوجي، وبرهن أن في حالة المدن المبنية فوق معسكرات، تأتي البنية المدينية من التصميم العسكري الأصلي المقسم داخلياً، ولأسباب سياسية على قياس جماعات إثنية. كما تمكن المؤرخ العراقي صالح أحمد العلي من تفسير بنية مدينة بغداد ومورفولوجيتها خلال فترة الخلافة العباسية.
غير أن التحول الكبير حدث وفقاً للباحثة الإيطالية جوليا نغليا في الفترة نفسها، مع دراسات أندريه ريمون، ولاسيما تلك التي حملت عنوان «المدن العربية الكبرى» التي عدت حجر الأساس الجديد للدراسات المدينية حول المدينة، إذ أنها رفضت معظم المزاعم الاستشراقية التي ارتكزت على مفهوم ركود المدن الإسلامية وتخلفها اقتصادياً. وقد برهن ريمون في مقالاته حول القاهرة وحلب وتونس، أن الحقبة العثمانية كانت مرحلة توسع لا انحطاط بالنسبة إلى المدن الإسلامية. وبتطبيقه لمنهجية جمعت التاريخي إلى المورفولوجي بداية بفحص وثائق أرشيف الوقف من أجل التوصل إلى الديناميات الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية للتطور المديني، وبمساعدة المعلومات المورفولوجية حول النمو المديني التي قدمها موقع المباني المتخصصة الجديدة في النسيج المديني– دل ريمون على أن الانحطاط العام للمدن الإسلامية إنما بدأ مع الاستعمار الأوروبي بعد سقوط السلطنة العثمانية. كما أسهم الفرنسي جان كلود ديفيد بدوره في تقديم معلومات حول حلب، ولاسيما بنية السوق والمباني الدينية والمنازل ذات الفناءات. وعلى خطى ريمون، استعان العديد من العلماء الاّخرين بسجلات الوقف كوسائل لإعادة بناء التاريخ المديني للقاهرة، كما في دراسة المؤرخة المصرية نيللي حنا حول حي بولاق، التي اعتمدت في كتابة تاريخه من جديد على وثائق الوقفيات.
ولم يقتصر هذا التطور على المدن العربية الإسلامية، إذ شهدت الدراسات حول البنية المدينية للمدن الإسلامية في الأناضول تطوراً ملحوظاً، رغم أنها ركزت على إسطنبول. ويعتبر روبرت منتران العالم الأول الذي أجرى بحثاً حول بنية المدن التركية. فبدءاً بتحليل الوثائق الأرشيفية، قام بدراسة البنية المدينية والحياة الاقتصادية والمجموعات الاجتماعية المختلفة في إسطنبول.
ولاحقاً أجرى كل من دوغان كوبان وتانيلي بحثاً حول البنية المادية لمدن الأناضول. ونسب كوبان الأصل البنيوي للمدينة التركية إلى التأثيرات المختلفة للنماذج الإسلامية والآسيوية الوسطى والإيرانية والأناضولية والبيزنطية والبدوية التركية التقليدية. كما وصف خليل إينالجيك المعالم المدينية البارزة في إسطنبول في علاقتها ببنية المدينة الإسلامية. وهو باستخدامه مصطلح المدينة «العثمانية الإسلامية» أشار إلى نموذج اجتماعي يرتكز على نظام الوقف، كما يقوم هذا النموذج على أحياء سكنية مقسمة، ذات مهمات مستقلة ومناطق تجارية تنظمها سلطة مركزية.
كما حظيت مسألة الهجرات الداخلية من الريف إلى المدن، باهتمام كبير من قبل الباحثين في تحولات الحيز المكاني للمدينة في العالم الإسلامي، كما في حالة إسطنبول وطهران والقاهرة وبيروت، إذ ساهمت هذه الهجرات في ولادة العشوائيات داخل هذه المدن، الأمر الذي ساهم –وفقاً لبعض دراسات الكتاب- في تلاش كلي للخطاب الذي ساد في الستينيات حول المدينة (الذي كان يصر في السابق على ضرورة حماية المدينة من غزوة الفلاحين)، لمصلحة صورة سلبية تماماً لانحطاط المدينة ككل، ولمصلحة رؤية تؤكد على ضرورة الانتقال إلى المدن المحروسة جيداً، بعيداً عن الحشود والتلوث، مع مسبح و»جنة عدن» في صفقة واحدة، أخذ يروج لها أصحاب مشاريع المدن الخاصة، الذين باتوا على قناعة بأنه لم يعد وجود للمدينة ولم يعد من معنى للدفاع عنها، وأنه علينا فقط الفرار منها إلى عالم الضواحي الجديدة، بعيداً عن مراكزها وأحيائها التقليدية التي باتت وكراً للجماعات «الإسلامية الراديكالية» -على حد وصفهم- وللمجرمين.
كاتب سوري