«المشاءة» لسمر يزبك حكايات الاختفاء وكواكبها السرّية

«المشاءة» لسمر يزبك.. حكايات الاختفاء وكواكبها السرّية

«المشاءة» لسمر يزبك حكايات الاختفاء وكواكبها السرّية
«المشاءة» لسمر يزبك حكايات الاختفاء وكواكبها السرّية

« لا تظن أنك تقرأ رواية الآن، فما أكتبه هو الواقع، وأنا أكتبه لمحاولة فهم ما حدث»
باستثناء ذلك التأكيد العابر، فإن الواقع الذي لا يبارح رواية «المشاءة» لسمر يزبك (دار الآداب، 2017) يبدو للوهلة الأولى وكأنه مجرد خلفية للسرد، لا هدفه أو موضوعه. لكن ما يلبث أن يتضح أن السؤال الذي واجهته يزبك وتطرحه ليس معنيا بفحص الواقع نفسه وأحداثه، بل إن كان الواقع مازال ممكنا بالأساس. فكيف لنا تصور الواقع الذي أضحت سرديته في كثافتها وتكرارها على شاشات الأخبار شديدة الاعتياد، إلى الحد الذي فقد معه قدرته على إثارة ما يستحقه من الرعب والصدمة؟
تنطلق المشاءة، التي تذكر لنا الرواية اسمها الحقيقي مرة واحدة عرضا، من «مجرد رحلة قصيرة، قمنا بمثلها عشرات المرات»، لكن تلك الرحلة التي تستوقفها حواجز المخابرات الجوية، والبراكات الخضراء التي تشبه بيوت الكلاب، وتتسع لعسكري واحد داخها، ويتخللها حصار «زملكا» في شرق دمشق، والانتقال إلى «دوما»، والقصف بالكيميائي، وأصوات الانفجارات التي لا تتوقف، تنتهي بسلسلة من حكايات الاختفاء. وفيما تختفى الأم أولا، وبعدها الفتاة الصلعاء التي قابلتها المشاءة في المشفى الذي يديره النظام، ولاحقا يذهب الأخ بلا عودة، وتتحول أم سعيد إلى تمثال نصفي من الطين ويتحول نصفها الآخر إلى غبار، وكذلك يختفى ملاكها الحارس «الشاطر حسن» وغيره، فإن مشاءتنا التي تنتهي مقيدة وملقاة في قبو مطبعة وحدها، بينما لا تتوقف القذائف عن السقوط من حولها، تكتب بلذة ما، لا يفسدها إدراكها لحقيقة أنها أيضا حكاية ستختفي.
لكن ما يصدمنا ليس كل هذه الاختفاءات، التي تبدو واقعية جدا، وتتلى بوصفها أرقاما لعدد المقتولين والمختفين في نشرات الأخبار وتقارير المنظمات الدولية عن سوريا بشكل شبة يومي، بل المدهش هو تشابك تلك الأحداث مع ظهورات «الأمير الصغير» وكواكبه السرية التي تسكنها المشاءة، وتتنقل بينها كما تتنقل بين المشافي والأقبية، وكذلك «آليس» وبلادها العجائبية التي تظهر بين جولات القصف، وتضيف لها راويتنا «سمكة بفراء أرنب» تقفز بين ضلوعها كلما رأت حسن. تتركنا يزبك مع سؤال بطلتها عن الواقع وإمكانه: «هناك وسط دمشق وفي حارتنا وبيتنا؟ ألا يزال العالم قائما ؟ هل اختفى وتحول إلى عالم من قصص ورسوم؟ وكيف يعيش الناس هناك بشكل طبيعي، ويحدث هنا ما يحدث؟».
يظن البعض بمشاءتنا أنها خرساء، مع أن الحقيقة أنها لا تحب تحريك عضلة لسانها أو لا تجد ضرورة لفعل ذلك، والبعض الآخر يظن أنها مجنونة، لكن كل ما في الأمر أنها لا تستطيع التوقف عن المشي، فهي تلحق بقدميها التي تقودها، هي أيضا لا تحب ولا تكره، وتظن أنها لا تملك أي مشاعر، وتحس وكأنها غريبة وعمياء وكل ما يحدث حولها غامض. فكيف لمشاءتنا التي يصعب الجزم إن كانت طفلة أو فتاة بالغة بجسدها الصغير وصدرها البارز الذي يجلب لها الإحراج، أن تكون جديرة باختيار يزبك لها كي تروي سرديتها؟
تمتلك راويتنا ما لا يملكه غيرها، فهي التي يصعب عليها فهم الكلمات المجردة دون تحويلها إلى رسوم، أضحت ترسم بالكلمات، فهي تكتب بأبجديتها الخاصة التي ألحقت جدولا لها في نص الرواية، هكذا فالمشاعر والمعاني والأحاسيس الجسدية تأخذ اشكالا هندسية وألوانا. فالجوع يشبه مثلثا، والخوف هو دائري الشكل، والموت نتيجة القصف بالفقاعات ذات الروائح الكريهة (الكيماوي) بنفسجي اللون، فلكل موت لونه الخاص، لكن الخوف لا لون له، لأن الكتابة نفسها هي الخوف، أما التشنجات التي تصيب المرء بعد استنشاق الكيميائي فهي غابة من الخطوط المنكسرة ذات الزوايا القائمة التي تتشابك في عقد عدة.
تهدي يزبك رواياتها إلى «رزان زيتونة في غيابها المر»، بينما تتسأل مشاءتها عن الفرق بين الاختفاء والموت، مغرقة إيانا في دوائر متداخلة من الحكايات الصغيرة التي لا تكتمل سوى بالإعادة والتفصيل، وتقودنا كل واحدة منها للمزيد من الدوائر، دون أن تعرف كيف تنهي حكاياتها. هكذا تتركنا راويتنا بلا نهاية، سوى رغبتها في الصراخ، وعشرات من الصور المتراكبة، من الحيتان بأقدام نعام، وقرود برؤوس زرافات، وأسماك طائرة، وأرنب بريش نعام، وكذا إجابة ملتبسة على سؤال الواقع وإمكانية سرده، فهي ترغب في أمر واحد، أن تنقل «صورة الحياة كما هي حقيقة، خاصة رسوم الأمير الصغير، وحيوانات كليلة ودمنة».
تتحول رسومات الأمير وحيوانات كليلة ودمنة وألوانها، التي لا نراها، بل نقرأ عنها فقط، ويمكننا تخيلها، إلى الحقيقة في أكثر صورها حميمية، لا كتعزية عن غياب رزان زيتونة المر، أو كاعتراف بغرائبية الواقع، بل كمحاولة لتكثيف الخوف المتضمن في فعل الكتابة، ومنح الواقع المفجع بعضا من الحقيقة التي فقدها بفعل الاعتياد، عبر نزع وقاره وواقعيته عنه قليلا، بما يكفى لتبين ألوان الموت والغياب وتخيل كيف من الممكن لنا أن نرسم بها.
كاتب مصري

m2pack.biz