المشاعل التي لا تنطفىء / جريس بولس
“هناك مشاعل لا تنطفىء، تضىء لنا طريق الحياة، وتعلِّمنا الفضيلة والتضحيه والامانةِ. لنتبع دائماً الطريق الذي تضيئه هذه المشاعل!”. أُريدُ بهذه المشاعل، تلك المشاعل التي تحترق في سبيل اضاءه تلك الطرق الطويله الملتويه من حياتنا، ثم لا تنطفىء… ومن عسى يقدم هذه المشاعل إلا تلك الصفوة من الناس التي تجرّدت من انانيتها وتنازلت عن حياتها الخاصه لتفنى في الحياة العامة، كانما الاحتراق عندها هو غايتها، لانها تجد فيه لذتها الانسانية والقومية. وبقدر ما تنتشر في حياة الناس وترتفع هذه المشاعل وتكثر في طرق الامة التواقة للحياة تبلغ اندفاعاتها ما تبلغ من المدى الذي لا ينتهي. في بطون تاريخنا القومي امثلة عدة لهذه النفوس المستقيمة الصارمة التي لا تخون عقيدتها ولا تحيد عن مبدئها. ألا يعجبك منها من كان يؤثر ان يحِزَّ بالمنشار نصفين على ان يرتد عن عقيدته فلا يرتد! إلا يعجبك منها هذا الذي خرج في مساء وقعة اليرموك حاملاً ماءً لابن عمه الجريح، وقد لقيه يتأوّه، ويشكون الظمأ اللاهب، فما ان قدَّم له الماء حتى سمع أنَّة جريح من خلفه، فيشير الى ابن عمه بان يحمل اليه الماء، فلعله يكون أحوج منه اليه … ولكن يشاء القدر ان يموت الاثنان دون ان يذوقا الماء. ولكنهما ذاقا ما هو أعذب وأبرد من الماء، وهو راحة التضحية والايثار. ألا اين هذا من مجتمع يراوغ فيه الواحد اخاه، ويفكر البشم فيه كيف يسلب الجائع الرَّغيف الذي ظفر به بعد جهد وكدّ؟ الا يعجبك ذلك الذي عاش جنديَّاً مجهولاً، ومات جنديَّا مجهولاً بعدما فتح – وهو متنكر – فتحاً كبيراً، حتى أذا طلبه قائده ليراه هو ورفاقه، واقسم عليه بان يتقدم لم يتقدم إلا مقنّعاً، وابى ان يذكر اسمه، ومات دون ان يدوّن التاريخ اسمه. كم بيننا وبين هذه التضحية العالية من أبعاد! ولكن من ذا يفكر أن هذا الطريق هو طريق الامجاد! ولاذكر كيف اقبل عقيل على اخيه علي، وهو خليفة، في يوم من أيام المجاعة، ومعه صبيانه المهازيل يتضاغوْن جوعاً، ويسودُّون لوناً، طلب اليه ان يعطيه من بيت المال صاعاً من طحين … فتضاحك عليّ، وراح يحمِّي حديدة في النار، ثم جاء وادناها من جسم اخيه، فكانَ لها لذغُ موجِعٌ، وقال له: ثكلتك الثواكل يا عقيل! أتئنّ من حديدة احماها إنسانُها للعبه، وتجرني الى نارٍ اوقدها جبّارها لغضبه؟” عاد عقيل وصبيته دون ان يظفروا من الرجل الامين بشىء لانه لا يملك مما طلبوه شيئاً. وانما هو راعٍ مؤتمن على امانة لأصحابها. فانظر الى هؤلاء الجائعين وهم الذين كانت تتارجح تحتهم عروش وممالك كبيرة. ولو مدّوا بايديهم الى خزائنها لما وجدوا صدّاً ولا ردَّاً. ولكنها هي الامانة التي تبدأ من عيون الناس. وكلكم يعلم كيف ان الدكتور عزمي بشاره فُرض عليه النفي القسري،فيعيش مغترباً في الغربه بعيداً عن وطنه الذي احب “فلسطين”، ويدفع ثمن نضاله وفكره الذي نجح في تعرية اسرائيل من ثوب الديموقراطية المزيفة التي تدعيها، فهو ضحّى بنفسه وسعادته وسعادة عائلته من اجل ان يحيا الاخرون بعزة وكرامة. هذه هي الامثلة الحيه التي تُحتذى، والمشاعل المضيئه التي يسري على اضوائها، ليسألني سائل: كم عاشت هذه الامثله! وكم اضاءت هذه المشاعل! ولكني اسأل هذا السائل: كم عاشت الامة بعد ان تناست هذه الامثله، وتغاضت عن هذه المشاعل! ومن غريب الامر فينا ان الفضيلة اصبحت لا تؤتى لانها الفضيله نفسها، فاذا طلبت الى رجل ان يكون اميناً اجابك ان كل من حوله سارقون. فما عساه ان تفيده امانته؟ ان مثل هذا التعليل الخاطىء لا يصحّحه وعظ ولا ارشاد …. وانما تصححه تلك الامثلة الحية التي يراها الناس في الناس وياخذها الناس عن الناس، لان الفضيلة المجردة قد ماتت في نفوس الناس فلنحيِها لهم بان يكون كل واحد مثالاً متواضعاً للفضيله بنفسه، فان هذا المثال مهما صغُر يترك اثره في نفوس الآخرين. لان في امانة الحاكم مثلاً سامياً لمن يحكم بينهم، ولان في استقامة خلق المعلم تقويماً لخلق طلابه من حيث لا يشعرون، ولان في شجاعة القائد ما يخلق الشجاعة في جنوده. ولان في تقشف المترفين ما يقربهم من المحرومين، وهكذا يستقيم كل امرىء في نفسه وعمله، فاذا المجتمع كله واحد مستقيم. بهذه الامثلة الحيّة يعود تاريخنا الى الحياة، ومجتمعنا الى الصفاء فمن لنا بتلك الامثلة الحيّة يستنظفها، او من لنا بتلك المشاعل الوهاجة يوقدها مرة ثانيه! بقلم المحامي: جريس بولس. كفرياسيف. البريد الالكتروني: Jeries.boulos@gmail.com