المعجم الثقافي
عندما كان العرب في أوج عطائهم الثقافي والحضاري صنفوا المعاجم في مختلف ضروب الفنون العلوم والمعارف، ولم يتركوا مجالا لم يعيروه اهتماما حتى بقايا الأشياء اعتنوا بها، وقدموا لنا مختلف أسمائها حسب أنواعها.
ولعل واحدا من أهم العوامل التي ساهمت في غنى العمل المعجمي يعود إلى أن المعجميين كانوا جماعيين في تصنيفاتهم المعجمية. صحيح لم يكونوا يشتغلون كفرقاء كما هو الحال الآن في المجتمعات العلمية، ولكن كان كل من يتصدى لصناعة معجم، في أي اختصاص أو مجال، ينطلق ممن سبقه، فيضيف إلى ما قدمه ويوسعه، أو أنه يهذبه أو يتدارك عليه. فإذا بكل معجم يحتوي أهم ما في المعاجم السابقة. ومن هنا كان البعد الجماعي، الذي يجعل المعاجم متكاملة، يطور بعضها بعضا، وفي الوقت نفسه لا ينوب عنها. كان التأليف المعجمي العربي تعبيرا عن إدراك واع وعميق لأهمية المعاجم في الحياة العلمية والعملية. ويكفي أن نقارن وضعية هذا التأليف في اللغات الحديثة، مع ما تعرفه صناعة المعجم في اللغة العربية حاليا، وما يصدر منها كل سنة في الغرب، مثلا، لنتبين مدى الرقي الحضاري الذي وصلت إليه هذه الشعوب، وفي الوقت نفسه نسجل التأخر الذي تعرفه العربية على المستويات كافة، بل إننا عندما نقارن الاهتمام العربي القديم بالمعجم، ونقيسه بما تعرفه الأمم المتطورة، في العصر الحديث، ندرك أن العرب لم يكونوا يقلون وعيا ولا تقديرا للصناعة المعجمية. ويكفي أن نطالع «معجم المعاجم» للشرقاوي إقبال الذي قدم لنا تعريفا بحوالي ألف وخمسمئة معجم، وهو عدد لم تعرفه أي لغة من اللغات، لنسجل الزخم الكبير الذي عرفته هذه الصناعة. ولا ريب في أن عدد المعاجم العربية أكثر بكثير مما رصده الشرقاوي لأن ما ضاع منها كثير جدا، كما بين الباحث نفسه في مقدمة كتابه.
لم يصنف العرب في المعاجم اللغوية والاصطلاحية فقط، ولكنهم أيضا ألفوا الموسوعات في اختصاصات متعددة، بل إن صناعة الموسوعات ارتبطت ارتباطا وثيقا بالمعاجم، حتى إن بعضها كان يجتمع فيه العملان معا. ويكفي أن نذكر «لسان العرب» للتدليل على ذلك.
تبذل الآن مجهودات كبرى من قبل مجامع اللغة العربية، ومعهد التنسيق والتعريب. وبدأ يتشكل وعي خاص بأهمية الصناعة المعجمية، في أغلب الأقطار العربية. ورغم المجهودات المبذولة من أجل توحيد هذه المعاجم فإنها ما تزال قاصرة عن تحقيق الغايات المطلوبة. لقد ظل «المنجد» المعجم المركزي لأجيال عديدة، ورغم ظهور المعجم الوسيط، فإننا لا نكاد نجد معجما يمكن أن نعتمده موحدا لمفردات العربية، وقابلا للتطور باستمرار كما نجد في اللغات الحية، حيث نجد، في الفرنسية مثلا، معجمي روبير ولاروس يحتلان الصدارة على ما سواهما، بالإضافة إلى جعل هذه المعاجم متناسبة مع مختلف الأعمار، وإذا كان الأمر يتعلق هنا بالمعاجم اللغوية، فإنه ينسحب على الموسوعات أيضا.
إن أغلب الموسوعات المتداولة الآن ليست في الغالب سوى ترجمة لما نجده في اللغات الأخرى. وفي هذا السياق نرى أن ترجمة بعض الموسوعات مهم جدا، لكونه مصدر ثراء للعربية. فالطفل العربي مثلا لا يعرف أسماء العديد من الألوان والحيوانات والنباتات والورود والملابس، ومتى كان الرصيد اللغوي ضعيفا لدى مستعمل اللغة كان هذا تعبيرا عن مستواه الثقافي، لكن الترجمة وحدها غير كافية، إذ تقتضي الضرورة الرجوع إلى ما تقدمه المعاجم العربية القديمة، وإلى ما هو شائع في اللغات العربية المحلية الحديثة، وبدون الإقدام على صناعة هذا النوع من المعاجم ذات البعد الثقافي لا يمكننا تطوير اللغة العربية بقصد استعمالها في الحياة اليومية. صحيح قد نجد في اللغات العربية المحلية استعمالات مختلفة، ويفرض علينا هذا ضرورة الانطلاق منها لصناعة المعاجم الثقافية المتصلة بالحياة. ويكفي مثلا الاطلاع على العديد من الأعمال الروائية العربية لنجدها توظف العديد من مفردات الحياة بطرق لا حصر لها حتى لدى روائيي القطر الواحد. وبدون ضبط هذه المفردات ضبطا دقيقا يعود بها إلى أصولها أو تعريبها أو نقل ما هو متداول منها في لغاتنا اليومية سيصعب على الكاتب إيجاد المفردات الملائمة للتعبير، ويتولد عن ذلك غياب التواصل مع ما نقرأ من هذه الروايات.
إن المعجم الثقافي لا يتصل فقط بالاستعمال اليومي لمفردات اللغة، ولكنه أيضا بالمعارف والثقافات والعلوم، وفي هذا النطاق لا بد من الإقدام على صناعة معاجم تدقق هذه المصطلحات وصلاتها بالمعارف التي ترتبط بها، وأن يضطلع بها مختصون في مختلف الحقول المعرفية، بل حتى ترجمة هذا النوع من المعاجم يجب أن يشترك فيه اللغويون والمعجميون وأصحاب الاختصاص، وإلا فإن هذا المعجم سيكون كتابا يضاف إلى الكتب المتنوعة بدون أن تكون له الشرعية والمصداقية التي يمكن أن يسلم بها الجميع. ولعل غياب هذه الشرعية، وتلك المصداقية هي التي تجعل علاقتنا بالمعجم واهية بل ومنعدمة. إن اختلافنا في اللغة، هو في الثقافة والمعرفة أيضا، وهنا تكمن أهمية المعاجم الثقافية.
كاتب مغربي