الملتقيات الثقافية العربية والسير على قدمين
المقصود من عنوان هذا المقال: المبدع ذاته، فلا شك أن حركة الإبداع تسير على قدمين: القدم الأولى: الإبداع وروافده، والقدم الثانية، النقد والقراءة الفاعلة، فكلاهما مكمل لبعضهما بعضا، بالنسبة للقدم الأولى، مؤكد أنه لا إبداع دون روافد مغذية له من آداب وثقافة وفنون وفكر وتاريخ، فلا يمكن تصور مبدع دون روافد وإلا حكم على نفسه بالموت إبداعيا، وجفاف ثمار غرسه، فلا جديد يضيفه، ولا ماء وتربة خصبة ينهل منها، وعندما نضعهما في ساق واحدة، فلأنهما كيان واحد لا ينفصلان، ودع عنك ما يقوله مثقفو المقاهي من ضرر التأثّر بالآخرين، وأن الأفضل للمبدع أن يعيش منطلقا متحررا، مكتفيا بقراءات عابرة، لا تصنع ثقافة، ولا تؤسس معرفة، وإنما ترسّخ سطحية وابتذالا.
أما القدم الثانية فنعني بها الوجه الآخر للإبداع، ويتمثل في النقاش الثري، والنقد المعمق، المؤسس على ذائقة عميقة، ودربة طويلة، وأسس منهجية، تنأى عن الانطباعية، وأحكام المجاملات، والآراء المجانية، التي لا تفيد مبدعا، ولا تطوّر إبداعا، فمن يجد من يمتدحه، دون نقد موضوعي مثمر، ينطلق من النص إلى النص، في ضوء تطور المبدع وتراكم تجربته الإبداعية. فكم من المبدعين ثبتوا أو بالأدق تراجعوا، لأنهم وقفوا عند قناعات البدايات، ولم يكن احتكاكهم بالتجارب الإبداعية والروافد المغذية مثمرا، فظلوا يدورون في فلك أو بالأدق تجمّدوا عند ما يظنونه، وبمرور الزمن به، تتضخم ذاته المبدعة، ويرى نفسه فوق النقد، أو لا يحفل بالنقد من أساسه.
لعل الظاهرة الأبرز في السنين الأخيرة في الحياة الثقافية في عالمنا العربي، هي تعدد الملتقيات الأدبية والثقافية، التي إن كثرت ما بين ثقافية وتنويرية وأندية للقراءة، ولكنها تقتصر في رسالتها على عملية التثقيف الشامل، الذي يشترك فيه المبدع مع أبناء المجتمع، وتبقى المشكلة الأساسية، والمتمحورة حول سؤال: ماذا عن رعاية المبدع وقراءة إبداعه بنقاش جاد، ونقد موضوعي منهجي؟ وهو القدم الثانية، لأن المبدع مكسب للمجتمع ككل، يعبر عنه، ويضيف إليه، ويكون لبنة في تطور المجتمع فنيا وفكريا.
فعلى كثرة إصدارات المبدعين: شعرا، قصا، رواية، مسرحا، دراسات أدبية، فإن الحلقات النقدية والنقاشية نادرة، وأعني بها: قراءة الإبداع من أطراف عدة: القارئ العام، المتلقين للثقافة، نخبة المجتمع، الناقد الأدبي، المبدعين الآخرين، وعلى المبدع أن يلجأ إلى المقاهي حيث الجلسات الخاصة، مع أصدقائه التي تنتهي بمدح أو كلمات عامة، تقال للتشجيع وليس للتوجيه. وكم من المبدعين تعددت إصداراتهم، وغابت المتابعات النقدية عنهم، وعلى النقيض كم من المبدعين عزفوا عن نشر المزيد من كتبهم، في ضوء خفوت التلقي الجاد لإبداعهم، واكتفوا بكتابة نصوص متناثرة، لا تجمعها رؤية مشتركة، وغالبا ما تجترّ نصوص تجارب سابقة للمبدع، فنرى أنه يعيد إنتاج ذاته أو ذوات الآخرين، بوعي أحيانا ولاوعي في أكثر الأحيان. لقد غابت عن الحياة الثقافية ندوات الورشة، حيث يعكف أعضاؤها على القراءة والنقاش الفاعل، فيرى المبدع صدى إبداعه في مستويات تلقي مختلفة، وفي الوقت نفسه يحتك مباشرة مع تجارب الآخرين، يناقشهم، وقد يستحضرون تجارب لمبدعين متميزين سابقين أو معاصرين، بغرض الدراسة والمعرفة التي تمتاح منها مباشرة. كما غابت ندوات النقاش النقدي الحقيقي، وغاب النقاد وانزووا، وضعفت ثقافة المبدعين النقدية، فإذا جاء أكاديمي، كانت مصطلحاته مبهمة، وخطابه النقدي نخبويا وعصيا على المبدع نفسه، ناهيك عن جمهور القراء.
وتتمثل أمراض الحياة الثقافية العربية في شللية بغيضة، ونزعة فردية مستحكمة، وحب الظهور، والتسابق وراء كاميرات الصحافة، ومحاربة الجادين المتميزين، والانتهازية على حساب القيمة الإبداعية، وتسيّد الفكر الصحافي المعتمد على الإثارة، وليس تقديم ثقافة، والنقاش النقدي الجاد، وليس المجاملة وتطييب الخواطر، من أجل الترويج لدار نشر بعينها، أو لأعضاء الشلة المتواجدين على المقهى. وقد أدى هذا إلى حالة من التشرذم والفردية والانزواء والانطواء لدى الكثيرين، والأهم أن حالة الحوار والنقاش الجاد اختفت، فتكاسل المبدعون وابتعدوا عندما لم يجدوا احتفاء ونقاشا جادا لأعمالهم التي أصدروها، ما جعل الكثيرين منهم يدور في المفاهيم نفسها التي كان عليها في صدر شبابه، لأنه ببساطة لم يجد تلاقحا إبداعيا جادا، فصاروا يفتخرون بعدد الكتب التي صدرت، دون النظر إلى التطور الفني والإضافة الإبداعية، وهذا أسوأ ما يكون عليه الأديب. إذن يكون المقترح إعادة ندوات الورش الإبداعية ثانية، يتصدرها النقاد والمبدعون، ويحرص على حضورها جمهور الناس، هذا على مستوى النصوص المفردة، وأيضا على مستوى الكتب الصادرة، ولننظر إلى عظيم الأثر على المبدع حين يجد نصه المفرد أو كتابه الصادر مقروءا ومحتفى به، وتنشر خلاصة الندوة، والأوراق المقدمة فيها، ونشدد هنا على الرؤى الجادة، والدراسات المنهجية، وليست الاحتفالية.. فقد أتعبتنا العدسات، وأشقت الحركةَ الإبداعية الرغبةُ في تصدر المنصات.
ونهدف مما تقدم إلى الحفاظ على المبدع من الانزواء الذي يعني بمرور الوقت الانطفاء، فإن أعظم ما يترسب في النفس البشرية أن تجد من يحدب عليها، ويهتم بها، فما بالنا لو كانت نفسا مبدعة.
وقديما كان أجدادنا في القبائل العربية يحتفلون بظهور فارس، ونبوغ شاعر.
٭ كاتب وأكاديمي مصري
الملتقيات الثقافية العربية والسير على قدمين
مصطفى عطية جمعة