المهجر الثقافي الأوروبي

المهجر الثقافي الأوروبي

المهجر الثقافي الأوروبي (2)

لماذا يسبق السياسيُّ الثقافيَّ دائما على مستوى الممارسة؟ هل لأن العمل الثقافي يظل مرتكزا على الفردي حتى وهو يتوجه إلى الجماعي؟ أم لأن الثقافة عندنا لم تتخذ طابع المؤسسة خارج السلطة، وأن المثقفين غير قادرين على تنظيم أنفسهم، ولو في جماعات ثقافية خاصة، مثل المدارس الأدبية والتيارات الثقافية؟ أم لأن حساسية المثقفين، حتى إن انتظموا في مدارس أو تيارات، تجعل كل واحد منهم يرى نفسه فريد زمانه، ووحيد قرنه؟
كل هذه الأسئلة لا يمكننا سوى طرحها، ونحن نرى من جهة أولى أعداد الشباب الملتحقين بالتطرف الديني في سوريا من العرب المهاجرين إلى أوروبا، ومن جهة أخرى ما تداولته وسائل الإعلام الثقافية مؤخرا عن مبادرة مجموعة من الكتاب العرب المقيمين في أوروبا من أجل تشكيل «رابطة الكتاب العرب الأوروبيين» ( AEWA)، وأن الكاتب العراقي صموئيل شمعون اضطلع بمهمة متابعة تأسيس هذه الرابطة.
تزايدت أعداد المهاجرين العرب إلى أوروبا منذ الستينيات من القرن الماضي، خاصة من بلدان المغرب العربي، وظهرت أجيال من المقيمين العرب والمسلمين في أوروبا. تمثلت الهجرة الأساسية الأولى في فئات اجتماعية فقيرة وذات مستوى ثقافي متدن، ولذلك كان من الصعب الحديث عن تنظيم هؤلاء المهاجرين أنفسهم. وكان لبروز جيل جديد من أبناء المهاجرين و»اندماجهم» بشكل أو بآخر في المجتمع الأوروبي عائقا دون إحساسهم بالانتماء إلى ثقافة آبائهم، أو الانتماء إلى ثقافة البلدان التي ترعرعوا فيها. وبالمقابل فرضت ظروف اجتماعية وسياسية، منذ أواسط السبعينيات، على فئة أخرى من الذين تشبعوا بثقافة بلدانهم العربية، وهاجروا منفيين أو فارين من بطش أوطانهم، أن يقيموا في أحد الأقطار الأوروبية، ويشتغلوا بالصحافة أو الإنتاج الثقافي والعلمي في المهجر.
لكن تنوع بلدان هؤلاء المثقفين واختصاصاتهم الثقافية وانتماءاتهم السياسية المتباينة كانت حائلا دون تشكل جمعيات أو روابط تجمعهم وتؤطر عملهم الثقافي؛ وإن كنا لا نعدم بعض التجارب، ولاسيما على مستوى إصدار الصحف والمجلات الثقافية. واليوم، ونتيجة تكالب العوامل المؤدية إلى الهجرة تعاظم الحضور العربي في بلاد المهجر، وبسبب الظروف التي يتخبط فيها الوطن العربي، والوضع الذي بات يتعرض له المهاجرون والمقيمون بسبب الظروف نفسها، يأتي تشكيل «رابطة الكتاب العرب الأوروبيين» ليكون بداية مرحلة جديدة في عمل الكتاب العرب الأوروبيين، ولتغيير صورة العربي في المتخيل الأوروبي.
لا يمكننا مقارنة المهجر العربي الأوروبي (في مطلع القرن الواحد والعشرين) في المهجر العربي الأمريكي (في بدايات القرن العشرين) لأسباب كثيرة. لكن غنى وعمق تجربة العرب المهاجرين إلى أمريكا الشمالية والجنوبية من الشوام لا يمكن إلا أن يكون تجربة رائدة تستفيد منها الرابطة، ليس بهدف تكرارها، فهذا مستحيل، ولكن بهدف تمثلها والاضطلاع بأدوارها في تطوير الثقافة العربية، من جهة، وفي تمتين عرى العلاقات الثقافية بين الشرق والغرب والعمل على تبديل المتخيلات الزائفة بينهما.
لماذا نجح الإسلام الثقافي في الانغراس في التربة الأوروبية إلى الحد الذي جعل «الجهاديين» يقومون بما قام به الصليبيون في التاريخ، ويتوجهون من أوروبا إلى دمشق والعراق لتأسيس «دولة الخلافة»؟ في الوقت الذي لم يفلح فيه المثقفون في تأسيس تقاليد تنم عن عمق ثقافي عربي، يسهم في تطوير المواهب العربية وتشجيعها لإنتاج ثقافة عربية غربية جديدة. لقد لعبت الرابطة القلمية (المهجر الشمالي) والعصبة الأندلسية (المهجر الجنوبي) دورا كبيرا جدا في تطوير الثقافة العربية، وإلى الآن ما يزال التراث المهجري العربي الأمريكي يستحث إلى البحث ويدعو إلى الدراسة. وبإمكان الرابطة الأوروبية أن تضطلع بالدور نفسه في المدى القريب والبعيد، إذا تمثلت جيدا المهام الجليلة المنوطة بها. لذلك لا يمكننا سوى أن نبارك هذه المبادرة الطيبة، بغض النظر عن الملابسات التي دعت إليها. إن إنجاح هذه التجربة ضرورة ملحة، وهو رهين بتجاوز المثقفين العرب في المهجر كل الحساسيات التي تعوق أي حركة أو فعل.
إن العمل السياسي الذي يمكن أن «يوحد» السياسيين، لا يمكن إلا أن يسهم في تفريق المثقفين. ولعل اتخاذ العمل الثقافي ذي البعد الإنساني، بغض النظر عن كل الحساسيات الطائفية والعرقية والسياسية، أساسا للتصور والعمل، كفيل بتجميع المثقفين والإسهام في بلورة ثقافة عربية جديدة، إذا ما تم تجاوز الحساسيات الفردية والنرجسيات شبه الجماعية. فالإنتاج الثقافي والأدبي الحقيقي لا يمكن أن يقاس بالترويج الإعلامي أو بالشهرة الوهمية، ولكن بمدى تحقق إبداعيته التي يمكن أن يراها، ويؤمن بها الأعداء قبل المتعاطفين.
يمكن للرابطة أن تضطلع بجمع المثقفين من المبدعين والباحثين، وبالانفتاح على تجارب الشباب بغض النظر عن اللغات التي يكتبون بها. وأن تكون فضاء للحوار وتقريب وجهات النظر، جاعلة من الإبداع الحقيقي والبحث العلمي قوام عملها المؤسسي، من خلال فتح مواقع في الفضاء الشبكي، وطبع المنشورات المختلفة، وتوسيع نوافذ ترجمة العيون الإبداعية والنقدية وتجسير الثقافات.
إن الاستفادة من فشل الاتحادات والروابط العربية، ومن نجاح المهجر الأمريكي أساس نجاح الرابطة، متمنين للرابطة التوفيق والاستمرار.
كاتب مغربي
سعيد يقطين

m2pack.biz