“المهمشون في التاريخ الإسلامي”
يحفل التاريخ الإنساني بعدد من الأحداث والمعطيات والأفكار، لم تستطع الكتابة التاريخية الإحاطة بها، لشساعة الجغرافيات ووفرة الوقائع وتعدد الروايات لها، فضلا عن الانتقائية والقصدية الموجهة لأية كتابة في هذا المجال. لكن نتفا عابرة وإشارات ترد في سياقات أخري، تترك أثرا يغري البحث الحديث، التاريخي أو الثقافي بشكل عام لاستلال كافة الخيوط المشتتة أو الدفينة، لتجميع تواريخ أو حكايات مرممة لمراحل كانت منسية ومهمشة أو مقصية كونها لم تكن تملك سلطة تدوين التاريخ وتداوله والحفاظ عليه. وتعتبر مساهمة د. محمود اسماعيل في مؤلفه الأخير (المهمشون في التاريخ الإسلامي) الصادر عن دار النشر رؤية بالقاهرة، محاولة جريئة في بناء تصالح مع أحداث تاريخية عبر النبش فيها وإعادة الاعتبار للفاعلين في هذه الوقائع من الناس الذين لم تكن لهم سلطة سياسية، من المنبوذين والمهمشين والمغضوب عليهم، وممن كانوا يقلقون الطمأنينة الظاهرية ويطمعون إلي تجسيد أفكارهم الرومانسية والثورية، أفكار وتصورات بمرجعيات دينية وشعبية وطوباوية ستصطدم بواقع قاس وعنيد. وقد كان وعي محمود اسماعيل، وهو الخبير بالتاريخ وحركاته، يقظا حيث يدرك أن الحوليات التاريخية لم تحفل بالتأريخ للعوام، وانشغلت بتواريخ الحكام سياسيا وعسكريا. لذلك فقد لجأ في تجميع التاريخ المنسي لفهمه في السياق العام الملتبس إلي مظان أخري في مؤلفات الجغرافيا والرحلات والأدب وكتب الفرق وتدوينات الطوائف المذهبية، والأحكام السلطانية وتأليفات الطبقات والتراجم والحرف والفلاحة والتجارة والطبخ والسحر. تأسيسا علي هذا، جاء كتاب (المهمشون في التاريخ الإسلامي) إشارة قوية للباحثين والمؤرخين والمغرمين بالمعرفة، بأن هناك مسارات عديدة يمكن من خلالها، معرفة ما كان مسكوتا عنه، ولا مفكرا فيه. ولكي يمهد حديثه عن هذه الفئات وحركاتها المجتمعية، لجأ د. محمود اسماعيل إلي رصد أولي للأساس الاقتصادي وتطوره والبناء الطبقي في صيرورته وتحولاته، كما كان قد عالجها في مؤلف سابق بعنوان سوسيولوجيا الفكر الإسلامي . وفي عرضه لإفرازات المجتمع القديم، تطرق لظاهرتي الفتوة والصعلكة كحل للمشكلة الاقتصادية والاجتماعية، وقيام العامة من الفقراء والحرفيين في عصر الدولة الأموية بثورات في سائر الولايات والقيام بمظاهرات للتنصل من دفع الجبايات والمغارم الثقلية والمجحفة. ونفس الشيء سيتكرر مع الدولة العباسية حيث تفاقمت المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، جراء ترسيخ النظام الإقطاعي، فاندلعت الثورات التي أفضت إلي ظهور الحركات الاستقلالية عن الخلافة، والتي قام فيها العوام بدور أساسي، فضلا عن قيام حركات فلاحية وأخري مهنية في الريف والمدن ضد الولاة والعمال… . (ص19). وإذا كان الحكام، عبر بعض الفقهاء والمؤرخين التابعين لهم، قد نعتوا هذه الحركات بنعوت قدحية شتي من قبيل الكفر، المروق، الإلحاد، الزندقة….فإن تطور هذه الحركات الاجتماعية سيعرف بدوره صحوات ذات قيمة فكرية ومرجعية مهمة، شأن شخصيات قائدة مثل ابن حمدون وعمران بن شاهين وحركة الزنج والتنظيمات التي تأسست بالحواضر تحت مسميات العيارين والشطار وارتبطت بالحرفيين للدفاع عن الحوانيت والأسواق من غارات السلطات الحاكمة. وفي هذه الفترة، عرفت هذه التنظيمات تطورا تصاعديا اندرج ضمن دعوة مذهبية (الشيعية والخارجية) ونجحت ثلاثة منها في أن تصير ذات كيان سياسي: القرامطة في البحرين، والصفارية في سجستان، وإمارة مجانة في الأندلس. كما تطرق د. محمود اسماعيل إلي تحامل عدد من المؤرخين علي هذه الحركات التي ستتعاظم في العراق والشام وفي العصر الأيوبي والمملوكي. أما في بلاد المغرب، فإن حركات المهمشين قد ارتبطت بالتصوف في صيغ متعددة وصفها البعض بالتطرف الذي قاد إلي الهرطقة خصوصا في فترتي حكم المرابطين والموحدين، ويقدم الباحث بعض الأمثلة، حركة أبي قصبة وحركة ابن الفرس، وحركة الدعي الماسي التي تذرع زعماؤها بالشعوذة والسحر، وادعي بعضهم النبوة. وللمزيد من الكشف عن هذه الحركات في كل أرجاء المعمور الإسلامي، عرج نحو الأندلس، ثم أقاليم المشرق الإسلامي، ليختم بالحديث عن ثقافة العوام وطبيعة ذهنياتهم. عرض كتاب (المهمشون في التاريخ الإسلامي) بعد مقدمه ورؤية بانورامية تمهيدية لخمسة عشر حركة احتجاجية متنوعة جغرافيا وتاريخيا ومرجعيا، وهكذا فقد درس لثورات: الزنج الأولي والثانية، الخشبية بالعراق، الحدادين بالأندلس، عمر بن حفصون بالأندلس أيضا، حميم المفتري بالمغرب الأقصي، كما تناول حركات العيارين بالعراق والأحداث في الشام، والحرافيش بمصر والفتاك في آسيا الوسطي، والصقورة بالمغرب والأندلس. وفي تسمية أخري تحدث عن دولة القرامطة بالعراق والبحرين ودولة الحرفيين الصفارية في سجستان، وعن حرافيش مصر والنضال باللسان، ليختم هذا البحث الطريف بثقافة المهمشين ومجموعة من الخلاصات (ص.ص 202 208) التي تستكمل مجموعة من الخصائص العامة (ص. ص 28 29). د. محمود اسماعيل : المهمشون في التاريخ الإسلامي. القاهرة. رؤية للنشر والتوزيع. ط 1 2004 (208ص). “شعيب حليفي”