المَظهَرُ بَينَ التّأويل والتّلَقّي

المَظهَرُ بَينَ التّأويل والتّلَقّي

المَظهَرُ بَينَ التّأويل والتّلَقّي

يُراعَى في صَوْغ الخطاب وتقَبّله جملة مِن المَعايير الشّكليّة الضّروريّة تُعتَمدُ في تصنيف الخَطيب وتَحديد ماهيَتِه ومن هذه المَعَايير : الإشارة، الإيمَاءةُ، الحركة، تَشابُك الذّراعين، نَظرة العينين… وَهي كُلّها تَرجعُ إلى أصل شَكلي واحد هُو المَظْهَرُ، وقد اكتَسب هذا المَظهر في الدّرس البلاغي القديم مَشروعيتَهُ وحُجّيَتهُ حيث وَعَى هذا الدّرس أنّ البلاغَة ليست نُتاجَ عبقريّة في اللّغة فقط بل هي نتاجُ عبقريّة في اللّغة ونتاج عبقريّة في الإنسان ومظهره أيضا، فالمَظهر سُلطة معنويّة تتَأرْجَحُ بين فاعل ومُنفعل لأنّه يُثيرُ خيَالنا ويَستَفزّ حواسّنا ويَجترحُ رَغبة مُلحّة في اكتِنَاه ما وراءَه وفَكّ حُجُبه. المظهر إذن جزء من ماهيّة الإنسان وقد احتلَّ في وعي الجَماهير شَكْلَ العلامة التي تُخْبرُ عن الإنسان وتُوضّح أَنَاهُ الثّاويَة وتُحدّدُ أبعَادَها فَهو مُرتَبط بأفق انتِظار كاملٍ ويُتَّخَذُ مقيَاسَا على عمق المُتكلّم أو سَطحيته، قوّة جاذبَة تُعطي الانطباع بخُطورة المُتكلّم وتَماسكه، فهو ليسَ قِشْرة مُبَهرَجَة لا معنى لها بل هو نظَام إيحائي كاملٌ نِظامُ مَقصود يَلجَأُ إليه المُتكلّم في شَيء مِن التّعَمُّد يُمَهّدُ به لأغراضه الأخرى ويَخلقُ به تَداعيّات انفعاليّة تُسهّلُ عُبُور ما سَيُقال، ولا غَرابَة في ذلك لأنّ الإنسانَ مَوْكُولُ بِتَفضيل جَودة المَظاهر ومَفْطورٌ على فَحص الظّاهر والاهتمام به فَمن المَظاهر ما أذْهَلَ وأبْهَرَ لأنّهُا أهْيَبُ في القلوب وأعظَمُ في النّفوس، ومنها ما ازْرَى وَنَفَّرَ لأنّ للإنسان أيضا هَوَسٌ مَحمومٌ بالأشكال والمظاهر ومَا تُوجبُهُ من جماليّة ودَلاليّة.
وهَذه الدّلاليّة فِكرةٌ جدّيَةُ في فَلسفة الجَاحظ وقَد أشَار إليها في مَواَضع كثيرة في « البيان والتّبيين ّ وتَساءلَ من خلالها تسَاؤُلا جَوهريّا : هل البلاغَة – بِمعنى من المعاني- اضطِلاعٌ بِمهارة لسانيّة عاليّة أمْ هي أبَعَدُ من ذلكَ ؟ هل البَلاغَة لِسانٌ لاَفِظٌ مُستقلّ بِذاته أمْ هي مُحتاجَة إلى دَعَامَةٍ أخرى لِتأييد أمرها وبَيَان مَذهبها ؟
نَفْهمُ من بعض النصوص الواردة في «البيَان والتبيين « أنّ البلاغة عندهُ لا تَعْلو عن هذه الشّروط الشّكليّة وأنّ المظهر يأتي – تبعا لذلك – كَوسيلة للتواصل لها وَقْعُ السّحْر على النّفوس والقلوب ويُزيحُ ما من شأنه أن يُثيرَ الرّيبَة أو يُشوّش على هذا التواصُل، ورُبّما أمكننا الجَزمُ معَ أبي عثمان بأنّ المَظهر الرّثَّ لاشكَّ يَنَالُ من أهمّية المُتكلّم ووجاهته وأنّ « العَباءَةَ « تُكَلّمُنا فعلا وأنّ المَرءَ ليسَ « بأصْغريه فقط : قلبه ولسَانُه « بل بْمظهره وشَكله أيضا وهنا يَكون لَفظُه ومعناهُ في طبقة شَكله وفَحواه. وفي كثير من كتُبه اللاّمعة أَوْسَعَ الجاحظُ هذا المُكوّن بالعناية والاعتبار وأدْركَ لما لهذا الامتياز الكاريزماتي الذي يَنفردُ به المَظهرُ من سلطة وسَطوة في الاسْتحواذ علَى مَشاعر الجماهير والتوغّل في نفوسهم لِيصبح مَوضعَ إجراء وتأثير ومصْدرا يَتعلّقُ بالانْجذاب يَبحثُ فيه المُتلقّي عن نوع من المُطابقة بينَ الظّاهر والباطن ويَقْسِمُ فيه الاهتمام بين الشّكل واللّفظ، وما أكثَرَ ما يَنُوب عن اللّفظ ويُغْني عنه باعتباره أرضَى حقُوق السّامع وسياسَة المَقَام ولأنّه ممّا يُورث الكَلامَ البَهَاء ويُشبع نَهَمَ المُتقبّل ويَزيدُه تَعلّقا ويُنشئ تَفاعلا بين تَطلعات هذا المُتقبّل ومَقاصد المُنشئ لِذلك أحكم الجاحظ في نصوص كثيرة من نصوصه بينَ المَظهَر واللّغة وبينَ مُستويات الدّلالة فالخَطيب لاَ يُطَوّعُ كلامهُ لِرَوَاسِم التقبّل السّمعي فقط بل لرَوَاسِم التقبّل المَرْئي أيضا وعلى هذا النّحو جَرَى اعتبار المَظهر مَقَاما عامّا أو سِياقا تَواصليّا كبيرا تُنجزُ فيه الأقوال والأحوالُ على حدّ سواء .
جَوهَر البلاغَة إذن أن تَكونَ رؤيَة إبداعيّة شاملَة رُؤيَة تأخذُ في الاعتبار أنّ الإنسان أخْلَاطٌ بين صورة ولغَة بين باطن وظاهر، وأنّ هذه الصّورة وهذه اللّغة لهما إبداعيّا وإقناعيّا هويّة واحِدة هي هويّة التّجانُس والتآلف وبذلك نمتنعُ عن حَصْر المَعنى في بُعد واحدٍ ونُخلّصُ البَلاغَة مِن أَسْرِ هذا البُعد الواحد لذلك رسَمَ الجاحظُ اتِّسَاء بمن جاء بَعدَهُ خطوط التواصل بين اللغة والمظهر وأكّدَ أنّ ما لا تَنقُلُهُ اللّغَة يَطْمَحُ المَظهر إلى التعبير عنه، فهذه الرّمزية وهذا الإيحاء والغموض يَقتضي من المتقبّل تَمثيلا تَأويليّا وكأنّهُ علامةٌ علَى عالمنا السّرّي المُحتَجَبِ.
٭ باحث تونسي

m2pack.biz