الناقدة بديعة الطاهري تتتبع السرد وجدواه في النتاج العربي

الناقدة بديعة الطاهري تتتبع السرد وجدواه في النتاج العربي

الناقدة بديعة الطاهري تتتبع السرد وجدواه في النتاج العربي

«السرد وإنتاج المعنى»، منشورات دار رؤية للنشر والتوزيع ، مصر، كتاب يستعيد في أصله رحلة بحث أكاديمي طويل بدأت فصوله في منتصف الثمانينيات عندما كانت المؤلفة، بديعة الطاهري، طالبة في جامعة السوربون، حيث ناقشت دكتوراه السلك الثالث حول التجربة السردية عند يوسف القعيد، وما زالت هذه الرحلة مستمرة من خلال أبحاثها الكثيرة المنشورة في العديد من المجلات المغربية والعربية حول تجارب سردية أخرى من المغرب وخارجه.
وتظل نصوص يوسف القعيد، وهي نصوص تتضمن تجربة روائية مميزة على امتداد الوطن العربي، هي اللحظة الفارقة في تاريخ المؤلفة العلمي، فمن خلال هذه التجربة تأسست رؤاها في كل التحليلات اللاحقة التي أنجزتها عن أعمال روائية متعددة، ومن خلالها أيضا ستحسم اختياراتها المعرفية في ميدان التحليل السردي أساسا. وليس غريبا أن تُصنَّف المؤلفة، في المغرب وخارجه، باعتبارها صوتا من الأصوات النقدية المميزة في ميدان السرديات الحديثة، بل قد تكون بديعة الطاهري من أكثر الأسماء التي أخلصت لموضوع هذا التخصص بكل قوته وطاقته التحليلية. لقد انحازت، منذ أطروحتها الأولى في باريس، إلى هذا التيار النقدي الذي اختار مساءلة النص، استنادا إلى «لحظات تلفظه»، كما يمكن أن تتجسد في صيغ القول، وفي كل الوسائط التي تقود إلى مضمون لا يمكن أن نقول عنه أي شيء خارجها. فقد يكون «المقول» مكتفيا بذاته من حيث الوجود المجرد، ولكنه لن يكشف عن أشكال مضأمينه إلا من خلال فعل قولي يُسند إلى ذات ضمن ظروف تلفظية مخصوصة، إن القول توريط للقائل في قوله دائما.
ومع ذلك لم يُعرف عنها ميلها إلى اختزال النص في «شكله» الظاهر، كما لم تكن تحليلاتها قائمة على رؤية «تقنوية» تصف النص من خارجه، كما ساد ذلك في فترة من الزمن، حيث أصبحت السرديات عنوانا لتوصيف مكونات «صامتة» تُدرس لذاتها، لا باعتبارها ممرا نحو تشخيص معنوي هو الغاية من كل فعل إبداعي. لقد جعلت من شكل القول سبيلا مركزيا إلى الكشف عن المعاني المنتشرة في النص، لا باعتبارها حاصل فعل مسبق، أو باعتبارها تعبيرا عن نية مودعة في نفس تسرد حقائق كلية، بل كما يمكن أن ينبثق عن فعل السرد ذاته.
ولا يشمل فعل السرد هنا تنظيم أحداث ووقائع فحسب، بل يمتد إلى كل الأوعية التي تستوعب الحدث ضمن بنية كلية هي القصة ذاتها، بما في ذلك توزيع الزمان وانتقاء الأفضية، وتحديد التقابلات الممكنة بين الشخصيات والرؤى التي تؤسسها في التلفظ والملفوظ على حد سواء. إن المادة القصصية خرساء، ووحدها الاختيارات السردية تجعل منها بؤرة لحياة تغتني بشكل تحققها أكثر مما تستمد قوتها من موضوعها. وهذا أمر طبيعي، فالسرد، كما أثبتت المؤلفة في تحليلاتها في هذا الكتاب وفي غيره، ليس لعبة حكي تكتفي باستعادة كل الوقائع، إنه ينتقي ما يمكن أن يمثل الحياة في كامل امتلائها، لذلك نبيح لأنفسنا الاستمتاع بما نسمع ونقرأ، ونتسامح مع الساردين وهم يوهموننا بحقيقة ما يجري، رغم أننا نعرف أن ما يجري هو «صنعة» تتم خارج زمنية الفعل الواقعي، ولكنها صنعة حاذقة تكثف داخلها ما يشكل ديناميكية حياتية لا تقاس من خلال كم الأحداث، بل من خلال أثرها على الذات القارئة.
وهذا ما تسميه المؤلفة في هذا الكتاب «انفلات الحقيقة وضبابيتها في العالم الذي تصوره النصوص»، بل يتعلق الأمر أيضا بانفلاتها واستعصائها على الضبط في وقائع اليومي أيضا، لذلك لا يمكن تلمس الصدق في التصريح بالنوايا، فالصدق في التفاصيل، والسرد آلية من آليات الكشف عن الجزئي والبسيط.
إن السرد يفعل ذلك لأنه يحول المجرد في الحياة إلى لحظات تُعاش بشكل «مباشر» في الفعل الموصوف خارج الحكم المفهومي. إن السرد وحده يستطيع استعادة غنى المفاهيم من خلال صبها في وضعيات إنسانية نلتقط فيها الانفعال وحده. وقد تكون ميزة تجربة يوسف القعيد، كما تؤكد ذلك المؤلفة، هي أنها خلطت بين فعل تخييلي هو من صلب العالم الروائي، وبين وقائع مستمدة من واقع يحرص السارد على تأكيدها بكل وسائل الإثبات السردية. قد تكون تلك طريقة خاصة في إعادة النظر في الأوتوبيوغرافيا، الغيرية والذاتية على حد سواء، وقد يتعلق الأمر بتحديد جديد للهوية ذاتها. فنحن لسنا نتاج ما نعتقد أنه حقيقة تُبنى ضمن تاريخ موضوعي، هناك من الوثائق والوقائع ما يؤكده، إن هويتنا، كما يؤكد ذلك بول ريكور، مزيج مما يأتي من التخييل ومما تبنيه حقائق التاريخ.
قد يكون التخييل «معرفة مزيفة» حسب ريكور دائما، ولكنها المعرفة الوحيدة التي تمكننا من رفع بعض الحجب التي تختفي وراءها التجربة الإنسانية، فالذات تحيط نفسها في المعيش اليومي بسلسلة من الأحكام هي أداتها في أن تكون أكثر من مجرد لحظة في الزمن، والسرد يمكنها من القيام بذلك. وهذا ما يمنح تجربة القعيد طعما خاصا، إنها لا تقدم تخييلا خالصا، ولا تتحدث عن واقع صاف، إنها تقترح علينا «تخييلا واقعيا»، وقد حاولت المؤلفة في هذا الكتاب قول شيء جديد عن هذا النوع من السرد. ديدنها في ذلك أن السرد شرط وجودي للتجربة الإنسانية، كما هو الشرط اللغوي فيها.
كاتب مغربي
سعيد بنكراد

m2pack.biz