النسق المضمر قراءة جديدة في المفهوم
لا مناص من أن النص، كما يقول إدوارد سعيد، هو نشاط «أكثر منه مادة جاهزة». من المؤكد أنه نشاط ثقافي، بله «مشروع جماعي إلى حد ما». والأكيد أنه – النص- باعتباره مشروعا جماليا، يظل مجالا خصبا للمضمرات الثقافية؛ وسلطة، من خلالها وبها، يتحصن التقليدُ، – أقصد التقليد بشتى تمظهراته، حتى ذاك الذي يتهندم بهندام حداثي أو تقدمي وهمي- دفاعا عن المصالح، وحفاظا عليها. وهو بذلك – التقليد- يسعى جاهدا «إلى منح مجموعة من الظواهر المتعاقبة والمتماثلة (أو على الأقل المتشابهة) وضعا زمنيا واحدا وفريدا».
إن المضمر/ الثقافي المضمرات/ الثقافية، إما أنها – وهذا هو الغالب- تسعى إلى تقوية التقليد بمرجعياته المختلفة، من خلال ترسيخ الهيمنة، وصنع الطاغية، والفحل والأب الطوطمي، بالإذعان لظواهر فنية/جمالية تقليدية، أو بالاستنجاد بمظهر جمالي محايد، أو هكذا يظهر لنا على الأقل، بحيث إن الكاتب (الفحل الثقافي) هو شخص «محصن ومحروس، تحرسه الثقافة بكل وسائل الحماية، وتتخذه نموذجا للقدوة الاجتماعية كنسق يثبت ويترسخ»؛ وإما أن هذه المضمرات، ونادرا ما يقع هذا، تتحول إلى مواجهة نسقية بين المتن والهامش، بتثبيت الثاني على حساب الأول. وعلى الناقد، في ظل هذين الاحتمالين، أن يعيد للنصوص اتحادها بالواقع الدنيوي، من خلال «دراسة نظام الخطاب، ذلك النظام الذي يقسم العالم إلى أجزاء، ويديره وينهبه، والذي يضع الإنسان على الرف، والذي يحدد أننا نحن بشر، بينما هم ليس كذلك، وما إلى ذلك. سوف نكتشف أنه حتى مادة حميدة كعلم اللغة، أدت دورا في تلك العملية، والأهم من ذلك، علينا التصميم على كشف سرية النصوص وخصوصياتها، فكبر حجمها وتورطها، تعطيها هيبة فن العالم الآخر، أو النصية المحضة».
ويمكن أن أسوق الشعرَ العاميَ (الزجل) المنتصر للهامش اللغوي، والقاع الاجتماعي، مثالا على ذلك، باعتباره كذلك تنشيطا للمهمش ضدا من الطاغية.
لكن لا بد من أن أنبه بدءا، إلى أنني عندما أعطيت مثالا للهامش، في مجال الشعر، بفن الزجل، فإنه لم يغب البتة عن ذهني، أنه ليس كل ما يكتب بالعامية في الزجل، هو حالة نسقية مخاتلة ومتحررة من سلطة المركز، بل هناك العديد من النماذج الزجلية التي تكرس الفحولة، وتبارك الطاغية، وتقدس النموذج، وتحصن التقليد…
خذ مثلا، تجربة الزجال المغربي إدريس بلعطار. فعلى الرُّغم من ذيوعها، وكذا احتفائها بمضامين ثقافية هامشية ومتحررة، أو قد يبدو ذلك، إلا أنها تبقى مصبوغة بنكوصية واضحة، من خلال عودتها لعامية «الأب البليغ»، ولشعرية «الفحل».
وعلى العكس، من ذلك، فإن تجربة الزجال إدريس مسناوي، خصوصا في مرحلتها الأخيرة، وبعيدا عن نسق المشيخة الذي تبناه في البداية خطأ، تنزع إلى الكونية، من خلال تقويضها لفكرة النقاء أوالطهرانية التي تمجد أنا/ نحن، وتدين الآخر، أو لا تعترف به.
إن في النسق الشعري المسناوي، مضمرات ثقافية إنسانية، تعيد الاعتبار للإنسان، بوصفه كينونة ثقافية تستحق هذا الوجود، أينما كانت ومتى كانت. والأكيد أن محدودية قراءة متن هذا الزجال، دليل قاطع على خروجه، نسقيا، عن معيارية النسق الثقافي المعطى؛ بل إن ما يعزز هذا الأمر، هو تفاعل الجمهور مع النسق الشعري لدى بلعطار، على الرغم من الآثام والمثالب الثقافية الماثلة في نسقه الشعري، والسبب في نظرنا، راجع إلى كون الجمهور قد تربى على ذوق شعري تقليدي، ما جعله يستقبل منجز هذا الشاعر دون مساءلة أو نقد.
ويمكن أن نعطي مثالا آخر من الشعر العامي، بشعر «التبراع» الذي ارتبط بالمرأة، قولا وموضوعا، وبين رغبتها الملحة في التحرر، وقمع النسق المحافظ لهذه الرغبة في تحقيق الذات، في وسط صحراوي محافظ جنوب المغرب.
تقول شاعرةٌ في إحدى تبريعاتها:
حُبُّكْذا الطّاري
ثابتْ… رواه البخاري… (أي حبك الطارئ ..صحيحٌ.. ورواه البخاري)
في ظاهر هذه «التبريعة»، وهي في غرض الغزل، تبدو القائلة متحررة من عقدة الذكورة ونسقها، وتصرح جهرا بحبها للرجل، في زمن وداخل وسط لم يكن يسمح للمرأة بقول الشعر، فبالأحرى أن تتغزل بالرجل. إلا أن المضمر يكشف عن الخطاب الديني من خلال الجملة النسقية «رواه البخاري»، بما يتضمنه «صحيح البخاري» من سلطة دينية، قد تعطي الشرعية لهذا الحب والقول معا؛ مع العلم أن النسق الاجتماعي الصحراوي المحافظ، يتحفظ جملة وتفصيلا على خوض المرأة في هذا الغرض وتصريحها بما تحس به من مشاعر تجاه الحبيب.
إلا أن الشاعرة/القائلة تخاتل الأعراف، متحدية سلطة الدين الشعبي وتداعياته، إذ نعتقد، ظاهريا، أن المرأة الصحراوية قد تحررت مبكرا. لكن بالنبش في هويه القائلة، يتبين ان إخفاء اسمها وعدم التصريح به، هو ترسيخ للنسق الذكوري، وللنظرة الدونية للمرأة.
شاعر وكاتب مغربي
النسق المضمر قراءة جديدة في المفهوم
محمد الديهاجي