النصوص الروائية الأفقية

النصوص الروائية الأفقية

النصوص الروائية الأفقية

في الوقت الذي يصبح فيه العالم أكثر تعقيداً، يُلاحظ أن نسبة كبيرة من الروايات العربية الصادرة في السنوات الأخيرة تغلب عليها سمة السرد الوصفي الأفقي، الخالي من المنعطفات والمفاجآت والتعرجات، فهي نصوص روائية منبسطة غير معنية بالتحبيك، وكأنها تستجيب بالفعل لما أعلنه النرويجي ديفيد شيلد في كتابه «جوع الواقع» عن موت الحبكة إلى جانب إماتات بالجُملة لعناصر الرواية، التي تنتهي بموت الرواية ذاتها، حيث يشعر القارئ قبالة ذلك النوع من الروايات بأن الراوي لا يؤلف ولا يركّب المشاهد، بقدر ما يؤدي دور الناسخ للواقع، حيث يهذي بعبارات سردية مرسلة لا تنعقد في حبكة مقنعة، ولا تنصب فخاخ التوتر الدرامي للشخصيات.
والأكثر غرابة أن معظم الروائيين صاروا أميل إلى الثرثرة والاستطراد المخل بالعمل الروائي، أي إنتاج ما سماه سعيد يقطين (الروايات البدينة) أي تلك المحشوة بالعبارات المترادفة، والجُمل الاعتيادية التي لا تنتظم في بنية دلالية، بقدر ما تنحبس في بنية شكلية، وكأنها تريد التحرر من جنس الرواية إلى ما بات يُعرف باللارواية، حيث يشترك في هذا المنحى روائيون لهم سمعتهم ومكانتهم الروائية، وروائيون يجربون الكتابة الروائية للمرة الأولى، وهي ظاهرة جديرة بالتأمل، إذ كيف يمكن التخلي عن الحبكة المسؤولة في المقام الأول عن هيكلة العمل الروائي، باعتبارها عموده الفقري، واللجوء إلى خدر اللغة في طورها الشعري، لكأن الرواية مناجاة لفظية تسير باتجاه واحد.
هذا التخلي الصريح عن الحبكة، الذي يلمح في الظاهر إلى رغبة لتحطيم أفق الكتابة المتوقعة، ورفض الأداءات الشائعة، يعني في الواقع التخفُّف من مجمل عناصر الرواية والانفلات – الواعي أو اللاواعي – من ضرورات الجنس الأدبي، إذ لا يمكن لهذا الصنف من السرودات الوصفية تركيب المشاهد، وبناء الشخصيات وتأثيث الفضاءات، وابتداع العوالم، حتى الحوار ينحدر إلى مستوى الكلام الإخباري المباشر، حيث تتحول المشاهد إلى صور باهتة، والشخصيات إلى مجرد أصوات، والفضاءات إلى محطات لا تسمح بالمكوث، بحيث ينتفي وجود الشخصيات المؤمكنة كما تفقد الرواية ذاتها سمة المكانية، وهكذا إلى أن تسقط الرواية من مرقى اللغة إلى مهابط اللغو.
إذا كانت القصة تعني السرد المتسلسل للحوادث، كما يقول فورستر، فإن الحبكة تختزن الأسباب إلى جانب ذلك التسلسل الزمني، فإذا ما انتفت السببية انتفت القيمة الصراعية، سواء داخل الشخصية أو خارجها، وبالتالي يصعب تطوير الحدث، وتسبيبه، وفي ظل غياب الصراع يصعب نمو الشخصيات، حيث تغيب الدوافع، وعليه، ينطفئ التشويق وتتحول الرواية إلى نص وصفي على درجة من الانبساط، على الرغم من كون الحبكة تتسع لانزياحات ما بين التقليدي الذي يبدأ بنقطة زمنية معينة وينتهي عند نقطة أخرى، وبين الحداثي الذي يكسر تلك التراتبية، كما تحمل الحبكة التماسك والارتهان إلى حكاية واحدة مقابل التفكيك والتركيب لحكايتين أو أكثر، ولكن يصعب تصور عمل روائي من دون الحبكة الأم أو حبكات صغيرة.
رواية اللا رواية مفهوم ظهر في الغرب منتصف القرن الماضي تحت عنوان ضد الرواية (أنتي- نوفل) Anti novel وهو تيار يبشر بموت القصة وفرط الحبكة والانفلات من ضرورات الزمان والمكان، أو ما سمّاه زادي سميث (قرف الرواية)، وكان إدموند دو غونكور الذي تحمل أكبر جائزة فرنسية للرواية اسمه قد أعلن موت الرواية، وكل ذلك ضمن حالة من التململ لتحرير جنس الرواية من شروطها، إلا أن ذلك التدمير الممنهج لبُنى الرواية والتفكيك المعلن لعناصرها لم يكن دون إبدالات فنية، فهي إذ تنازلت عن الموضوعات الخارجية أصبحت هي الموضوع، كذلك الزمن الخارجي بما هو زمن المواقيت الفلكية ارتدت عليه نحو الزمن الداخلي الذاتي الإنساني وهكذا، حتى الحبكات التي تعتمد على كثرة المصادفات تم التخلي عنها لصالح ثراء الحياة، حيث بدا ذلك واضحاً في تجريبات الرواية الفرنسية الحديثة، عند ألن روب غرييه وكذلك ميشيل بوتر الذي أعلن انتهاء صلاحية الرواية المتعارف عليها، وغيرهما من الذين بوغتوا بظهور الواقعية السحرية في أمريكا اللاتينية وهي تعيد إنتاج الرواية التقليدية بشروط جديدة.
أما الرواية العربية وفي طور انقلابها على قوالب الرواية التقليدية فقد استنسخت مجمل الإشارات الفرنسية تحت عنوان (الحساسية الجديدة)، لكنها لم تحقق أي صدى فني يُذكر، وبالمقابل بشّر عبدالرحمن منيف في مرحلة متأخرة بفكرة الاستغناء عن البطل الفرد في الرواية العربية، والبطولة التعاقبية للأبطال، وابتدع ما سمّاه بالأبطال الأنهار، أي البطولة التناوبية بين مجموعة من الشخصيات التي تتحرك داخل زمن واحد، وهو تطوير جزئي لافت يتماشى مع دعوات ديمقراطية الرواية، بما هي انعكاس لخطاب الحداثة الاجتماعية، كما تم التخلي عن الفكرة التقليدية بكون الرواية رؤية فنية للعالم، إلى محطات أكثر حداثة تقول بالرؤية اللايقينية للعالم، وهذا هو ما نقى الرواية من الإيديولوجيا والجُمل الجازمة والبطولات التراجيدية، بحيث باتت الرواية أقرب إلى الاحساس الدنيوي بالوجود.
يحتج الروائيون العرب المنقلبون على الحبكة بفكرة التجديد، وبأهمية تخليص الرواية من قيم الترابط والتسلسل والوحدة والتجاور والمنطق والتوازي، التي لم تعد فاعلة في الرواية الحديثة، يتساوى في ذلك المنحى الروائيون المحترفون والمبتدئون، وكأنهم يحاولون تدشين تيار كتابي يراهن على أن الشكل الانبساطي هو الأهم في تشكيل المضمون، وأن السرد الأفقي هو مستقبل الرواية العربية، كما يحتجون برواية «البحث عن الزمن الضائع» التي يتسيد بطولتها الزمن، وهو تدليل في غير محله، لأن رواية مارسيل بروست ملغّمة بالحبكات والتوترات الدرامية الصغيرة وبثراء الحياة المعيشة الموصوفة الذي يعادل الحبكة. كذلك تُستدعى الرواية الغربية اليوم كحجة لتعزيم تيار الكتابة المتحركة دون أي أفق أو قاعدة فنية، ولكن يغيب عن بال معظم كُتّاب الرواية أن تلك الروايات المغايرة تعتمد تقنية السرودات الفسيفسائية المنتظمة بحبل خفي، التي تتحشد في بؤرة توتر موضوعي أو حسّي، وهي إذ تجنح إلى السرد المهجّن أو ما يُعرف بسرد (الما بين) الذي يوائم ما بين السيري والموضوعي فإنها تعي طبيعة الإبدالات الفنية، التي تلغي فكرة التأليف لتباغت القارئ بما يصلح للسرد من السيرة الذاتية على حافة بوح صادم، أما ما بتنا نطالعه في اللقطة الروائية العربية المتأخرة فهو في الغالب أشبه ما يكون بكاميرا بيد أعمى تلتقط كل شيء دون القدرة على الاهتداء إلى ما ينبغي وما لا ينبغي التقاطه، وهذا هو ما يفسر سر الحشو المخل في معظم الروايات، إذ يبدو أن الروائي العربي امتلك القدرة الفائضة على الكلام وفقد القدرة على المحو، أجل المحو الذي يشكل كلمة السر في العملية الإبداعية.
كاتب سعودي

m2pack.biz