النهايات المرئية
كلّ العوالم الممكنة التي يُعطى للمرء أن يبنيها، لا يستطيع أن يخرج في عمارتها من سلطان العالم الواقعي، حتى ذلك الخيال المبني على فنّ التفلّت، هو بحكم ارتباطه بالحواس، مشدودٌ إلى هذا الواقع، واقع النهايات المرئية المترصّدة الاتجاهات الأربع، مهما علا المرء في فكره وحلمه، أو انبسط.
هذه هي لعبة الممكن التي تتواطأ مع استحالة الحدود غير المرئية، تلك التي يرسمها الذهن بعد أن يكون قد دُرّب وحشي بمنطلقات وثوابت لا يمكن له أن يتخطّاها، حتى في لاوعيه.
اللاوعي، هذا الفنّان في هدم الضوابط والثوابت والإرث والوارث، فنّان في إقناع ظلّه بأن يجعله يشبَّه إليه بأنّه قضى عليها جميعًا، في لحظة تجلٍّ، سرعان ما تغيب آثارها، لتأتي الصحوة بكلّ ما لحق بها من أضرار الزلازل التي ارتجّت لها الأعماق، وتكشف ما لملمته من تشظّيات نثرتها الريح.
الريح لا تهادن، ولا تردّ مرهوناتها، الريح لا تكرّر نفسها مرّتين، تمامًا كنهر هيراقليطس، تأخذ من هذا وتعطي ذاك، لا تهب ذاتها مرتين للذّرات عينها، هكذا تجدّد الريح نفسها، لأنّها تخطو نحو نهاياتها في دورة حياتها.
وهكذا يجدّد الإنسان حياته، يخلق هُويّات مختلفة، بطبائع مختلفة، منها ميتافيزيقية ومنها بشرية، تماهيًا مع الطبيعتين اللتين تشكّلانه بحكم جسده وروحه، يحاول أن يخلق عالمًا يتناغم ومصير الاثنين معًا، يريد أن يربح الاثنين في حفلة واحدة مستمرّة، يُعمل خيالَه سندًا، الغيبيات لا تُستبعد من الاحتفال، ولا الرغبات، والإرادة تتوّج ذاتها، في تناغم الممكن والمستحيل من دون حاجة إلى شهود إلّا في حيّز المنطلقات. المنطلقات متاحة للجميع، لكنّ العبرة في النتائج. النتائج نسبية. النتائج تأويلات، وهي رهينة وجدان المؤوّل وأدواته. الوجدان مزاج ينطنط في أروقة الآن. الآن مشروط بزمان ومكان الخيال المنطلق من الحالة.
النهايات مرئيّة، كالبدايات تمامًا… كلّ الطرق، كلّ الاتجاهات، كلّ المفارق، كلّ الغوص، كلّ التحليق، يصبّ في مركز الدائرة، الدائرة التي تشهد على التحوّلات، التحوّلات هي كيمياء الرحلة، رحلة الجذب والفصل بين الكيانات في تحقيق ذاتها، حيث التنقّل والتغيّر والتحوّل ضرورة لاستمراريّة القدرة على العيش. القدرة محفوفة بمخاطر استهلاك الطاقة البشرية من فكر وشغف وإقبال على الحياة، والزوّادة محدودة السنوات…
والتنقّل من مرحلة إلى أخرى حركة ضرورية يلجأ إليها الإنسان حفاظا على توازنه النفسي والفكري والعلائقي في الرحلة، تحت مسميّات عديدة، تختلف من إنسان إلى آخر، بحسب أولويّاته واستعداداته… أي أن الاستعداد هو الأهم في المراحل الانتقالية. لا قطيعة في الفكر، والثبات نوع من أنواع الموت… النضج يعي المتغيّرات ويتقبّلها ويتكيّف معها، لأنه يتهيّأ لها. التهيّؤ للنهايات المرئية هو الذي يعطي للعمر معناه، وتاليًا أحواله، حزنًا أو فرحًا أو انتشاء أو يأسًا.
النهايات ليست المسعى أو الغاية، هي معلومة الوجهة، هي «العدم السعيد» الذي يختم به كل العوالم الممكنة وغير الممكنة. وقبل ختم العوالم، يتمّ البحث عن السعادة، ضالّة الجميع وكنزهم، في العالمين. قد تكون لها أسماء أخرى، مثلا، التوازن النفسي، الطمأنية التي يولّدها، والانتشاء الذي يسمو بالروح إلى فضاءاتها، روح المبادرة التي تستعيدها النفس تناغمًا مع عطاءات الحياة.. بعضهم يختار اختصار الطريق، طالما أن النهايات ماثلة أمامه. لاختصار الطريق تجليّات عديدة، منها الموت حبًّا، ومنها العزلة اختيارًا، ومنها العيش بما يرضي الآخرين، ومنها انتظار اللحظة المناسبة التي تأتي من دون أن تؤذن منتظرها بمجيئها.
النهايات المرئية، هذا القدر الذي يخطو نحوه الإنسان بقلق المنتظر، حيث يعطّل الواقعُ عملَ «المهدئات الغيبيّة»، ويصبح محكومًا بالحياة على الطريق… الطريق والمشاهد العابرة بكل تفاهتها… والتراب الذي يضمّ التراب تمهيدًا لنهايات أخرى مرئية…
٭ أكاديميّة وروائيّة لبنانيّة