الوداع واسطنبول وهي
من نافذة الطائرة المُحلقة فوق المدينة كتب الراكب الذي جلس بجانبي ناحية النافذة التي سمحت له بإلقاء النظرة الأخيرة على اسطنبول، ‘وداعا يا ذات العينين العسليتين والجسم الممشوق والمصقول بعناية نحاتي الهياكل والمعابد، كنت مبهرة الى حواف الدهشة، جميلة إلى حد العتبات المقدسة، كنت سعيدا بلقائك وأنا على تخوم الشهوة أعاند التفكير الذكوري في مخيلتي وأعيده إلى مراتع التقديس، أكبح الشهوة العارمة التي تشعل كل التفاصيل الصغيرة في كوامن الاهتياج، وأروض فكرة امتطاء بدنك الغض المتمرد والمختبئ خلف تدثرك.
جازفت بالجلوس معك يا خازنة أسرار الفتنة، نراقب السفن العابرة لمضيق البوسفور كما يفعل الروائي التركي اورهان باموق في طفولته، أقول جازفت باحتضانك لسويعات مع يقيني التام بأني سأحصد بعد سفرك الخيبات، فقد شعرت بعدك بالفراغ الموحش كالإقصاء الحاد كالجرف المؤلم كأسنة الرماح، لكن المشغول مثلي باقتناص اللحظات الهاربة من حسابات القدر، لا يمكنه أن يفوّت ما يتناثر من دقائق الوقت المطحونة تحت عجلات الزمن.
جلسنا معا في المقهى الشعبي الواقع أسفل موقع مسجد السلطان أحمد عند بازار السجاد، وهناك سحبنا معا أدخنة الشيشة الموروثة من مجد السلاطين العثمانيين، وتحدثنا لبعض نشكوى زماننا في سطوة المكان وتأثير برودة الشتاء التي تخاتل أجهزة التدفئة وتمرق إلينا، لكنها لا تستطيع الولوج إلى جسدينا المستمتعين باللقاء والبوح، المندلق خارج خزائن الكتمان المكدسة على أرصفة الاشجان، فما قيمة اللقاءات إن لم تهيئ أجواء المتعة لشخصين اجتمعا صدفة وعلى أثر العجلة سيتلاشيان؟!، فشوقا سأسميك البدايات وهياما سأختم بك النهايات؛ كانت قبلتك المفاجئة والمغايرة ساخنة إلى درجة إذابة المساحات الباردة، وسرت إلى الدم النافر سخونة، وأيقظت الرغبة الناعسة والبائتة بياتا شتويا حينها، وحفّزت الشرايين على الاستنفار الداخلي، وكادت (أنا) تنفرد وحدها بالشعور وما تبقى من جُزئيات التعقل، في منتزه الحديقة الاسلامية الواقعة على التلال القريبة من قصر (الطوب قابي)، ولولا الحياء وبعض الموانع الذاتية التي ظننتها رخوة في يوم ما لغبت معك في عناق طويل الأمد، عناق ومطارحة يطفئ الشوق المتقد داخلي كالسعير.
قلتِ دعنا نستذكر اليوم في الأمكنة التي لا يفارقها البال ولا يبللها النسيان، فقلت لك اختاري المكان، ودعيني أرتب التفاصيل الصغيرة وأعقد صفقة مع القدر ليمنحنا السكينة والارتياح، فاخترتِ الجلوس على مشارف الخليج وارتشاف الشاي (العسملي)، على أنغام شمس الشتاء المتراقصة على لحن الأفول، والتي أحدثت تدرجات لونية برتقالية ونيلية خاتمة بذلك فتنة النهار الاسطنبولي المستور.
لم يعد لدينا إلا سويعات نحاول ألا نضيعها في الصمت المؤذن بالتلاشي، أو في استحضار الكلمات البطيئة كالسلحفاة حين الاستدعاء، فلم لا ندع الأيادي متشابكة والاكتاف متحاضنة لتستبد كلها باللقاء ونحن الشهود في هالة من الدفء والاندماج، تقول وهي تذوّب قطعة السكر في كؤيس الشاي التركي: أؤكد اشتياقي لك ورغبتي الجامحة للتماس الجسدي معك، للمرة الاخيرة بعد الأعداد التي لا تحصى، وتغالب دمعة أطبقت عليها بالرموش المحدّدة بالكحل، لم أتمالك نفسي فطبعت قبلة عند مفترق الشفتين وفركت الزغب المرتعش خلف الاذنين، وهمست لها قائلا : لا نريد التمرغ هذه اللحظة في رماد الماضي أو الغرق في توقعات المستقبل لأننا لا نضمن شيئا سوى الامنيات، دعينا نستمتع قدر المستطاع باللقاء العابر، واعتبري ما نحن فيه زخة مطر هبطت في أحلك أيام الغيظ، فالصدفة يا سيدة المكان يا درة التيجان شاءت أن نلتقي هنا، وهي لا تخلق لنا الغبطة بل نحن من نوجدها أو نعدمها.
ماذا سأسمي الحال بعدك سوى الاشتياق العاصف، يا سيدة الحكايات يا منتهى الامنيات، لا شيء يلتم بعدك سوى الغياب واستبداد الهم المزمن منذ أن ودعتي المدينة وتركتيني أجوب أرصفة المدينة صعودا وهبوطا، فقد انمحى الجمال الذي رأيته حين وطأت اسطنبول، وتغير مذاق الاطعمة من الحلاوة إلى المرارة بعد التلذذ بالفاكهة وما طهته أيادي الطباخين المهرة، حتى الشاي العسملي الاحمر غيّر لونه بعدك، وصار لونه فحميا، وتوارى الشتاء الذي يحرّض حلمات الصبايا على التكور خارج جغرافية الجسد، وحل الصّيف بسخونته وسقمه.
سأودع الغيب امنياتي، وسأنتظر على ضفاف الحظ أملي، وبين الرجاء والتحقق، يتسع الترقب لحضورك المزهو ألقاً، لوجودك المكتنز عشقا’.
*كاتب من عُمان