باريس في السادسة صباحًا
إن لم ترَ باريس في السادسة صباحًا فأنتَ لم ترَ شيئًا يا صديقي. لم تعرف باريس. باريس قبل ولادة الصباح امرأة مهزومة. في تلك الدقائق القليلة التي تفصل ما بين عودة السكارى إلى أوكارهم وخروج أهل الوظائف إلى مكاتبهم، في تلك الدقائق المهملة من الزمن، تعلق باريس في الصمت المحطِّم.
تسكت #باريس في السادسة صباحًا.
الشوارع فارغة. الأضواء باهتة. الهواء نفسه ثقيل مكبّل. الأشجار مستسلمة. الممثّلون وضّبوا كواليسهم وناموا. العازفون استلقوا إلى جانب آلاتهم وغرقوا في العلب السوداء المهترئة. النشّالون عدّوا غلّة نهارهم وأخفوها تحت سابع أرض. المترو يستحمّ بآثار النعاس الأخيرة قبل أن يعود إلى حركته السيزيفيّة. جميعهم أنهوا واجباتهم. وبقيت باريس وحدها. باريس الهشّة. باريس الرماديّة كلون الحزن.
باريس في السادسة صباحًا تزحف بهدوء وهي تمسح الألوان عن وجهها وتستعدّ لتضع غيرها. في هذه الدقائق القليلة تطلق باريس العنان لظهرها المقوّس ولتجاعيد وجهها العتيق. لم تجد مَن ترقص معه الفالز هذا المساء. لم تجد مَن يمسك بها من خصرها ويجعل رأسها يدور ويدور ويدور. لقد خذلوها جميعهم. كالعادة. تطلق باريس العنان لحزنها. وهل أجمل من امرأة حزينة؟ للحزن سحره. أناقته. هيبته. الجميع يحترم الحزن. حزن باريس يشبه حزن الغروب المخمليّ الذي لا ينفكّ يموت كلّ يوم. لا ينفكّ يولد كلّ يوم.
باريس امرأة حزينة في السادسة صباحًا. امرأة لم تجد عشيقًا يليق بها فآثرت السجائر والنبيذ والغرور. وحدهم الوحيدون يتقنون فنّ العجرفة. وحدهم الذين لم يجدوا من يحبّهم، مَن يملأهم، يجدون ملجأهم في باريس.
يجعل الفرنسيّون باريس مذكّرًا، فيقولون “إنّه باريس” بالفرنسيّة. لكنّهم مخطئون. في السادسة صباحًا تكتشف أنّهم مخطئون. باريس امرأة تعيسة وحيدة. امرأة هشّة متعجرفة. تهزم زوّارها خشية أن يهزموها. لا يمكن باريس أن تكون رجلاً. لا يمكن هذا الصمت والحزن واللوم أن تسكن رجلاً. وحدها رحم امرأة تحتمل هذا القدر من الموت.
دقائق قليلة قبل أن ينسلّ المسافرون بحقائبهم الملوّنة إلى المترو. دقائق قليلة قبل أن يستيقظ عامل المخبز ويرتدي إزاره الطحينيّ البياض. دقائق قليلة قبل أن يستيقظ أهل المكاتب ليرتدوا ربطات عنقهم وتنانيرهنّ الضيّقة ويهرعوا إلى علب رماديّة صغيرة. دقائق قليلة تسمح لباريس بالتقاط أنفاسها، هي التي تفتك بزوّارها من دون تردّد.
تجلس باريس في السادسة صباحًا أمام مرآتها. تنزع “البيريه”. ترمي السيجارة من فمها. تكسر كأس النبيذ الراقدة بين يديها منذ الأزل وتتأمّل وجهها. دقائق قليلة تبكي فيها باريس. تبكي عشّاقها القدامى. عشّاقها القادمين الذين سيرحلون لا محالة. تبكي مجدها وعظمتها ونابوليون الذي نهش بلاد العالم من أجلها. في السادسة صباحًا فقط، تخلع باريس قناعها وتبكي. طالما كان الفجر أقبح أوقات النهار. أكثرها وحدة. أكثرها قسوة.
دقائق قليلة ويبدأ الضجيج المستعجل. تبدأ سيّارات الأجرة بالركض في الشوارع والأزقّة. يبدأ صوت طرطقة النعول على الأرصفة. تستيقظ باريس من غفلتها، تضع قناعها. ترتدي قفّازيها. تعتمر غرورها وتزجرك بنظرة حانقة تذكّرك فيها بأنّك طالب غريب. طالب لم تُفتَح له أبواب الجنّة بعد.
مواضيع ذات صلة الموسيقيّون وحدهم أبناءُ باريس الأرقام في باريس ليست دومًا بريئة